عرض مشاركة واحدة
  #15  
قديم 2006-12-21, 07:38 PM
عبدالوهاب العطالله عبدالوهاب العطالله غير متواجد حالياً
مصور محترف
 
تاريخ التسجيل: May 2006
الدولة: الزلفي
المشاركات: 549
جنس العضو: ذكر
عبدالوهاب العطالله is on a distinguished road
افتراضي

سنة الجدري:

وللجدري في الجزيرة العربية ضربات موجعة اهلكت الناس واخلت البيوت وملأت المقابر حتى ان المراجع للكتب التاريخية ليجد ضمن حوادث السنين التي يعدها المؤرخون الاوبئة التي قضت على الناس كالجدري والكوليرا وغيرها.
ومن امثالهم في ذلك "ماولد الا عقب حصبا" ولاعيون الا عقب جدري"

بل ان العامة يؤرخون بهذه السنوات فمثلاً سنة السخونة (الرحمة) كانت عام 1337ه وسنة الحصبة عام 1330ه واما السنة الجدري فكانت في عام 1358ه

وحدثني احد كبار السن ممن اصابهم الجدري وانجاه الله في تلك السنة بأنه كان ثالث اشقائه الذكور وكان له ثلاث شقيقات وكان عددهم هؤلاء الاخوة بمقاييس تلك البيئة كثير حيث كان المرض والجوع يقضي على الناس يقول اصاب الجدري بلدتنا فمات الكثير وخاصة الاطفال وتشوه البعض وعمي من عمي، ولقد اصبت انا واحدى شقيقاتي ومات شقيقاي بسبب هذا المرض وقام على تمريضنا والدتي رحمها الله وكان العلاج هو حفرة تحفر وتوضع فيها الجلة على جمرات نار فتدخن فيعرضون اجسامنا لهذا الدخان وكان الهدف من ذلك هو تجفيف البثور المليئة بالصديد فإذا تقشرت قاموا بدهنها بالسمن لتخفيف التقرحات ومازلت اذكر تحذير اهلنا بعدم حك البثور حتى لانموت ومن خوفي من الموت كنت احاول رغم الالم عدم حكها فيما كان شقيقاي الصغيران فما كانا يعيان هذا وكنت اشاهد التقرحات الاليمة على وجهيهما، وربما تحسن الشخص نوعاً ما ثم ينتكس ويغلب عليه المرض وربما يموت فيسمونها (رمحة).

يقول: ومن القصص الطريفة انه بعد شفاء اختي جاء الينا ضيف وكنا نستعد لتجهيز عشائه فلمح اختي الصغيرة وسأل عن الندوب التي في وجهها فاخبر انه الجدري وقد تشافت منه، فما لبثنا الا وقد قام مفزوعاً ينفض ثوبه ويقول: ادخل على الله، وولى هارباً ونحن ننادي تعش تعش ولسانه يردد ادخل على الله ادخل على الله.

قصة وقصيدة:

اصيب الشاعر والفارس بطيحان بن مبارك العضياني بمرض الجدري (او العقر كما كانوا يسمونه قديماً) فابتعد عنه اهله وذووه مسافة ليست بالبعيدة خوفاً من انتقال العدوى اليهم وتركوه في معزل لايأتونه الا بالطعام والشراب حتى عافاه الله تعالى بعد ان قاسى من المرض شهراً كاملاً وفي مرضه كان ابن اخيه فالح بن هضيبان يأتيه بحليب المغاتير وبعد الشفاء اسند اليه بطيحان هذه الابيات:

يافالح العقر اختفى قبل الادوار
تعال هرجني يوم انك عجيبي
ياجعل عمرك ماتجي فيه الاشرار
ياواحد جاني بطاسة حليبي
جاني بها فالح من العرب الابكار
ومصلحات في شعيب عشيبي
قدامها صالح بدا راس مجدار
معه ام خمس اللي تجري الرعيبي
شريتها بالسلم مانيب مكار
وهوه عشقها والنصيب النصيبي
شريتها من الدهاسي ورا الدار
مصقلة وموقلة للبيبي

حكاية شعبية:

ويورد احمد شوحات في كتابه (ديوان عبدالله الفاضل وقصة حياته) قصة حدثت في القرن الثاني عشر الهجري حيث حط مرض الجدري في ربوع (العلا) الواقعة بين تدمر وحمص وحماة وانتشر فيهم فمات من مات وتشوه من تشوه وبقي من لم يصب بأذى، والجدري احد الامراض السارية في البيئة المتخلفة اكثر من غيرها وقد انتشر بين قبائل البدو عامة مغادرة الارض التي ينزل فيها الوباء كالطاعون والجدري وغيرهما، وينتقلون الى ارض اخرى لا وباء فيها.

وشاء الله ان يصاب شيخ القبيلة بهذا الجدري وراحت حبيبات الجدري تغزو جسمه ورأسه وتشوه وجهه وسلمت عيناه من تلك الحبيبات، اجتمع وجهاء القبيلة وقرروا مغادرة العلا الى مكان آخر وان يتركوا شيخهم في خيمة لوحده فلما هموا بالرحيل نحروا جزورا امام الخيمة وربطوا كلبه "شير" بجانبه ليأكل من اللحم ويحمي صاحبه من الوحوش ووضعوا له داخل الخيمة شيئاً من طعام وشراب فلما التفت وذا هم يتجهون غربا تاركين مرابعهم مبتعدين عن شيخهم الذي اجال نظرة فيما حوله فلم يرى الا الاثافي ورمادا تذوره الرياح وبقايا اوتاد منسية فما كان منه الا ان قال موجهاً كلامه الى كلبة الوفي "شير":


هلك شالوا علامك حول ياشير
وخلوا لك عظام الجزر ياشير
يالو تبكي بكل الدمع ياشير
هلك شالوا حمص وحماة


بقي الشيخ في خيمته اياما حتى قيض الله له جماعة عابرة سبيل، نزلت امرأة عجوز كانت مع الركب واقتربت من الخيمة فوجدته طريحاً فاشفقت عليه وطلبت من اهلها البقاء عنده حتى يشفى او يموت فقامت هذه العجوز بتمريضه وعلاجه في حين كانوا الآخرين يتنحون بعيداً خوفاً من العدوى، استمرت العجوز في رعايته وخدمته حتى شفي من مرضه، فوهب لهذه المرأة الخيمة ومافيها التي لايملك شيئا غيرها، ولكنه بعد ذلك لم يبحث عن قومه ولكنه رحل مغاضبا لهم واخذ يردد اشعاره المعاتبة لقومه وهي من نوع العتابا الذي يغني على الربابة في تلك النواحي منها:

هلي شالوا بليل وما علموني
خلوني شبيه المعلموني
تمنيتك يروحي معلموني
معاهم لاصميل ولازهاب

ويقول:
هلي لو شح قوت الناس عدنا
كرام واليتيم يعيش عدنا
عقب ماكنا ذرو للناس عدنا
نتذرى بالذي مالو ذرا

ويقول:
هلي شالوا وخلوني بصيرة
وضيعت الدليل مع البصيرة
بعد ليس الحساوي من البصيرة
على عيني محاولني الغراب

ثم يغترب سنوات يعود بعدها الى اهله في قصة درامية حبكها الحكواني الشعبي.

الجدري والعلاج:
ويتحدث الاستاذ عاتق بن غيث البلادي في كتابه الادب الشعبي في الحجاز عن الجدري:
يعزلون المريض ثم يأتون بشخص قد اصابه المرض يسمونه المجدر فيقوم بتمريضه "تجديره" فيعالجه بغسلة بالدباغات ثم يضع الملة على الجروح المتقيحة ويخرجه في الرمضاء ولكن هذه العلاجات شيء لابد منه وليست ناجعة وقد يصاب المريض بالعمى والعقم.

ولايبعد عن ذلك علاج الحصبة والعنقز مع انهما اخف كثيراً من الجدري.
والجدري لايعود على من اصيب به غير ان اطباء الطب الحديث لايعترفون بذلك ويقولون ان الحصبة فقط تعتق اما الجدري والعنقر لايعتقان والمشاهد انه لم يصب شخص واحد بالجدري مرتين.

(دق الجدري) تطعيم البدو:
ويقول بوركهارد "يتسبب الجدري في اثارة خوف كبير بين البدو فهو اذا حل بمخيم يختطف اعداداً كبيرة من سكانه لذا عندما يهاجم المرض رجلاً او طفلاً تنصب له خيمة على مسافة معقولة من المخيم ويلحق به شخص واحد فقط ممن اصابهم المرض ونجا منه ودق الجدري معروف تماماً وسط العثرة وبصورة اكبر وسط عرب الشمال والقبلي ويقوم الرجال فقط بإجراء هذه العملية بإبرة تدق بين الابهام والسبابة ولكنهم نادراً مايستخدمون الصديد الملوث قبل ان يكون الجدري الطبيعي قد تفشى فعلا في القبيلة ويستخدم هذا اللقاح بالنسبة للكبار والصغار على السواء وقد تعلم العترة هذا التطعيم من فلاحي سورية ولكن العرب في الصحراء الداخلية مثل بني صخر وغيرهم لايعرفون عن هذا اللقاح شيئاً ويفوضون الامر كله لمشيئة الله وهو مايفعله ايضاً الكثيرون امن العترة وقد بدا التطعيم بالانتشار في سورية وكان الطعم قد جلب اول الامر الى حلب على يد المستر جون باركر القنصل البريطاني هناك ثم ادخل بعد ذلك الى جبل الدروز لدى اندلاع الحرب الاخيرة بين انجلترا والباب العالي...الخ

مأساة المريض ومعاناة الاهل:
وهذه الشاعرة هداية العطاوية اصيب زوجها مشحن بالجدري وهو مبعد عنهم على مسافة معقولة وعنده شخص مأجور على العناية به، وكانوا اذا شدوا يسير به على بعد عنهم خوفاً من العدوى فقالت تخاطب ابنها جديع:

يالله عسى المجدور في نو خيره
واللي جرى له مايجي ذخر الاجواد
ياجديع ليتني ما اتعوض بغيره
لاشفت حاله جاني الدمع وراد
جانا مع الجرة يدرج بعيره
الا قرب زدنا ورا البعد بابعاد
ارجي وترجاه الرباع النظيرة
لاقنعوا بغث المعاصير الاذواد
ياعنك مالد النظر للقصيرة
ولا شال مشعابه على الربع هداد
له هدة والقفش مثل المطيرة
يوم الهزيمة حبلها صار منقاد
ماقط يوم شفت منه النكيرة
ولاهوب مسبوع بخيل على الزاد

تصور الشاعرة في هذه القصيدة بعاطفة جياشة ووفاء الزوجة لزوجها حالتها الموجعة فهي ترقب زوجها من بعيد وكلما اقترب ابتعدوا فيالها من حالة مؤلمة لهما جميعاً، ولكن زوجها مات من اثر هذا المرض (الجدري) فهز هذا الحدث مشاعرها لترثيه بابيات صادقة هي من نوادر القصيد المعبرة عن مأساتها في زوجها حيث قالت:

قلبي كما شيهانة بيضها فقش
المح راح ولابقي الا قفوشه
واصاحبي صيده دقاق المها العكش
وله عادة في كل ليل يحوشه
والله يالولا الدرب من دونهم عفش
ودرب الخلا ماينوطي في عفوشه
لافز فزة واحدة موحي وقش
يخاف من مخلاب شي ينوشه

بعد وقوفنا على مشاعر الزوجة نحو زوجها المصاب بالجدري سنعرض هنا لمشاعر الاب نحو ابنه المصاب بهذا المرض ولنقرأ ماقاله ناصر الشغار في ابنه محمد عندما اصيب بالجدري وتركوه في نفي وذهب لزيارته:

ياشعيل وين اتلي نجوم الربيعي
اللي لهم كز المجوخ ولاعة
شيوخ درجهم بالمعزة رفيعي
عزي لمن مثلي وهم له بضاعة
على نفي ياشعيل خلي وضيعي
حطوه بين المقبرة والزراعة
حطوه في حزم طويل رفيعي
شرق عن البطحاء بهاك الرفاعة
ان زعزعوا رفعة وجوزا جميعي
الخيل ماتاخذ بهم ربع ساعة
تبكيه صفرا عند اهلها طليعي
وتنخاه راعية القعود الزعاعة
ماهوب نقال المشاعيب صيعي
يفرح لي قالوا هل الخيل شاعة
وقال ضمن مرثيته في ابنه بعد وفاته:
يارب عضني فيه ياللي خذيته
ياعايض الواد الممحل بخريف
يارب عضني فيه من راس ماكره
حر على كفي يرف رفيف

وهكذا نرى ان هذا المرض الخطير له التأثير الكبير في الحياة الاجتماعية والنفسية وكذلك الناحية الثقافية حيث نجد ادبا صادقاً كان نتيجة لرحلة المعاناة والالم مع هذا المرض ونختم بحثنا ببعض الابيات للشاعر نومان السريحي العنزي بعد ان اصابه الجدري واشرف على الهلاك فقال يوصي اخيه ويذكر زوال الدنيا والقصيدة تتجاوز الاربعين بيتاً ومنها:

دنيا كفانا الله من شر جورها
شفنا بها من الخير والاشرار
كنت اعفا من شرد الصيد بالفلا
واليوم جسمي بالمرض منهار
اقفوا وخلوني خلاوي بصيرة
وحطوا هميد الرمث تقل جدار
جودوا زهابي وثنوا رحولي
وارجي الكريم الواحد القهار
والحمد لله يوم ربي فزع لي
الكيف طاب وزالت الاخطار
وصلوا على خير البرايا محمد
اعداد ماهلت حقوق امطار

امثال من البيئة:
من الامثال العامية في هذا الشأن المثل الذي ذكرناه "ماولد الا عقب حصبة ولاعيون الا عقب جدري".
ومن امثلتهم ايضاً قولهم "يأكل قطوف المجدر" وهذا المثل يضربونه لمن لا يترفع عن اي شيء تصل اليه يده من الدنيا ولو كان من طرق غير نظيفة.

المراجع
1- الموسوعة العربية العالمية
2220/8- الشعر في الجزيرة العربية خلال قرنين: د. عبدالله الحامد ص
343- الأمثال في نجد
41261- حديث الصحراء ناصر السبيعي وابراهيم الخالدي ص
5134- ديوان عبدالله الفاضل وقصة حياته: أحمد الشويخات 29-
635- الأدب الشعبي في الحجاز: عاتق غيث البلادي
7284- ملاحظات حول البدو الوهابيين: جون لويس بوركهارد ص
840- الفهيد
982/2- الفهيد
10123/1- الفهيد
11116/8- الأمثال العامية في نجد

اتمنى اكون قد افدتكم بمعلومات عن هذه السنة
وهي من تجميع الزميل قاسم الرويس