( 11 )
صراع من أجل التسليم للإيمان
Struggling to Surrender Dedication
بقلم جفرى لانج
الفصل الثانى
القرآن الكريم
الإيمان بالمتشابه :
"مداخلة : الإيمان لا يكون إلا للغيب ، وعلى هذا فالمتشابه هو غيب لم يأت تأويله بعد ، كما سيتضح مما سيأتى فيما بعد" .
هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ {7} سورة آل عمران
يرى "محمد أسد" ، أن مفتاح فهم آيات القرآن الكريم يندرج تحت الآية رقم ( 7 ) من سورة آل عمران "أعلاه" .
والتمييز بين الآيات المحكمات وتلك المتشابهات هو السبب فى اختلاف وجهات النظر . ويعرض "محمد أسد" ، تفسيرا معقولا لرسالة القرآن الكريم بالنسبة للآيات المتشابهات ، فهى تلك الآيات الحقيقية والتى ليست فى متناول الفهم والتجربة للبشر والتى يقول عنها القرآن أنها "غيب" . ويقول ، أن عقل الإنسان يعمل فقط فى نطاق تجاربه السابقة وما يلمسه أمامه ، فكيف ستصل له الإفكار الدينية الغيبية بنجاح وكيف سيتصورها ؟ كيف سنهضم أفكارا ليس لها مثيل ولو جزئيا فى تجاربنا السابقة ؟
وكمثال تقريبى جدا ، كالذى ورد فى إحدى الكتب ، كيف ستشرح السحاب لشخص ولد أعمى ؟ "مداخلة : أو كيف ستشرح لشخص لم يذق البرتقال فى حياته ، ما هو طعم البرتقال ، إلا أن تقربه له بما يعرف سابقا" . ولهذا فالقرآن الكريم يطلب منا أن نفهم الأشياء المتشابهة قياسا على الأشياء المحكمة ، ولا نجهد أنفسنا فى تأويلها وكيف ستكون منتظرين الوقت الذى سيأتى فيه تأويلها .
"مداخلة : ونظرا لأهمية هذه القاعدة فى فهم النصوص الدينية فى القرآن ، فقد أعطانا الله سبحانه وتعالى مثالا على المستوى الشخصى ، يعاينه كل فرد من حين لآخر ، وهو الرؤية المنامية الصادقة ... (......... يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ {43} قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ {44} سورة يوسف) . وأقول الصادقة ، لأن الرؤية هى التى تؤول ، ولكن الأحلام لا تؤول ، فهناك أحلام من الشيطان ، وأخرى مما تحدث به نفسك حين اليقظة وكلاهما حلم لا يؤول ... وحين يأتى تأويل الرؤية الصادقة تجد أن حقيقة ما آلت إليه يختلف عن حرفية الرؤية ، وأن الرؤية لم تكن إلا رموزا فقط ، فمثلا رؤية سيدنا يوسف عليه السلام آلت إلى أب وأم واخوة ، وقد كانت شمسا وقمرا وكواكبا ، وكذلك رؤية الملك ، آلت إلى سنين رخاء وسنين جدب ، وكانت الرؤية مجرد رموز لذلك ... وهكذا" .
وبناء على ذلك ، فلو أننا أخذنا النصوص المتاشبهة فى القرآن الكريم بحرفيتها ، ولم ندرجها تحت الإحتمال المجازى ، لانتهكنا روح القرأن الكريم وروح الوحى .
ولهذا نجد أوصاف الجنة فى القرآن ، فيها تشبيهات من مغريات الدنيا خصوصا للمعاصرين فى القرن السابع حين نزول القرآن ، بالرغم مما ذكره الله سبحانه وتعالى فى آية سورة السجدة :
فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ {17}
وبالمثل ، فإن كل صفات الله سبحانه وتعالى لهى فوق كل ما يتصوره الإنسان :
"............ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ {11} سورة الشورى" .
"وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ {4} سورة الإخلاص" .
وبالرغم من عدم إمكانية تصورنا له سبحانه ولصفاته ، فنحن الفقراء لعظمته والإعتماد عليه .
وبهذا ، فالآيات المتشابهات ، يندرج تحتها صفاته سبحانه وتعالى ، صفة يوم القيامة ، الجنة والنار ، وأشياء من هذا السبيل . لا نعرف حقيقتها ولا تأويلها ، إلى حين يأتى التأويل فنعاينه حينئذ فقط ، وهكذا يعيب الله سبحانه وتعالى الذين يتبعون تأويل المتشابه ابتغاء للفتنة ، ويخوضون فيما لا يعلمون :::
"وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ {52} هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ {53} سورة الأعراف" .
وهكذا فالمتشابهات ، لا توصف لنا هذه الأمور حرفيا ، بل تقربها إلى حد ما ، إلى مفاهيمنا وتجاربنا التى نعايشها .
الشياطين والجن :
فى أذهان الغربيين ، فإن كلمة "شيطان" ، تستدعى فورا صورة منظر من وراء الطبيعة ، لشخص نصفه حيوان والنصف الآخر إنسان ، ويحمل مطرقة فى يده . والـ "جنى" هو مثل ذلك ويعيش فى بوتقة زجاجية . وهذا التصور فى الواقع متأثرا بالفولكلور المتداول بالشرق الأوسط والأدنى . وبمرور الوقت أصبحت هذه هى الصورة الخاطئة المعتمدة فى الغرب . ولذلك فنحن فى حاجة لتعديل المفاهيم .
كلمة "جن" مشتقة من "جُنة" بضم الجيم ، وهى تعنى "غطاء .. إخفاء .. محمى .. مستور" . وبذلك ، فكلمة "جن" تعنى "مخلوق لا يمكن أن يدرك بحواسنا" . ولذلك يعتقد "يوسف على" فى ترجمته لمعانى القرآن الكريم ، "هو روح أو مخلوق لايرى أو قوة خفية" .
وفى تفسيره ، يقول الطبرى ، عن "الشيطان" ، أن العرب يستخدمون هذه الكلمة فى كل من شذ ، سواء من الجن أو الناس أو الوحوش وكل شئ ..... الشاذ من كل جنس فهو شيطان ، وذلك لأن أعماله وسلوكه تشذ عن باقى الصنف ، وهى أبعد ما يكون عن الصحيح . فكلمة "شيطان" تشير إلى البعد أو البعيد ، وهى مشتقة من "شطن" ... "شطن دارى من دارك" ، أى بعد دارى عن دارك . ومرة ثانية فهذه الكلمة يمكن أن تطلق على الإنس :
"وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ {14} سورة البقرة" .
وفى تفسير الطبرى ، يقول ابن عباس ، أن بعض الرجال من اليهود حينما كانوا يقابلون صحابة الرسول عليه الصلاة والسلام يقولون آمنا ويقرون بالإسلام ، وعندما يعودون لأصحابهم فى الدين يقولون نحن معكم ، إنما كنا نستهزئ بهم . وفى قول لقتادة ومجاهد ، أن شياطينهم هم قادتهم للشر ، ورفقاؤهم من المنافقين والمشركين . وكذلك ينص القرآن الكريم ، على أن الشياطين والجن ، هى عوالم أخرى خارج نطاق احساسنا . وحتى لا يحدث خلط ، فسأشير فى كلامى فيما بعد ، إلى ، "كائنات روحية / قوى" أو "كائنات غير مرئية" ، وذلك حين مناقشة موضوع ما .
الزمن والخلود :
مفهوم الزمن والخلود وعلاقته بالله سبحانه وتعالى كان مثار المناقشات الفلسفية المختلفة عبر تاريخ الأديان . وقد قدم "محمد إقبال" رؤية جديدة فى هذا الموضوع فى أحد مؤلفاته تتفق مع ما توصل له العصر ، المصادر المذهبية الإسلامية . وقد قوبلت المحاولة بكثير من المديح من علماء مسلمين وغير مسلمين بالرغم من معارضة شديدة أيضا لأفكاره . وكلمات "إقبال" لا يجب أن نقلل من شأن أهميتها فى محاولتنا هذه ، حيث أن الكثير من التناقضات الأيدولوجية تنشأ من فهمنا لهذا الموضوع . من ناحية ، لا نستطيع مقاومة نسبة الزمن إلى الله ... وذلك ما يحدث فى نفس التنزيل ... ومن ناحية أخرى ... وهذه أكثر أهمية ... لابد أن نكون على وعى بقصر مفاهيمنا ومحدوديتها .
الحيرة الكبرى تنشأ حين نسقط صفات المخلوق على الخالق . فبما أنه سبحانه لا يحده مكان ... فهو خالق المكان ... فمن الطبيعى ألا ننسبه سبحانه إلى قيود مكانية . وفى نفس الوقت لا يحده الزمان ، من ماضى وحاضر ومستقبل ، لأن هذا الفهم يتعارض مع "..... ليس كمثله شئ ...." .
وبالنسبة لنا ، فنحن نتحرك فى المكان فى كل الإتجاهات ، أما بالنسبة للزمان فلا حراك ، لا نستطيع الرجوع لزمن مضى ، ولا نستطيع التقدم لزمن آت ، لا نستأخر ساعة ، ولا نستقدم ساعة ، نحن نعيش فى اللحظة التى نحن فيها .
نقطة جوهرية أخرى ، ذكرها القرآن الكريم ، وهى أن مفهوم الوقت لدينا نسبى وليس مطلقا . فمثلا ، فيوم الحساب كما ورد بالقرآن ، مقايسه مختلفة تماما عن مقياس الوقت بالدنيا .فهو أطول بمراحل :
( 1 ) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا {46} سورة النازعات
( 2 ) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللّهِ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ {45} يونس
( 3 ) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً {52} سورة الإسراء
( 4 ) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً {103} نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً {104} سورة طه
( 5 ) قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ {112} قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلْ الْعَادِّينَ {113} قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ {114} سورة المؤمنون
( 6 ) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ {55} سورة الروم
المفسرون دائما ما يشيرون ليوم القيامة ، بصيغة المستقبل ، وذلك لأن هذا ما سيحدث مستقبلا ، غير أنه فى بعض آيات القرآن الكريم ، قد يشار ليوم القيامة بصيغة الماضى ، وهذه لفتة أدبية ، تدل على حتمية وقوعه . كما أن استخدام الفعل الماضى والفعل المستقبل ، يدل على شئ آخر ، وهو أن مقاييس الزمن حينئذ ستختلف عما نعيشه فى الدنيا .
كذلك ، فإن الأيام وطريقة حسابها عند الله متعددة كما ورد بالقرآن الكريم :
( 1 ) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ {47} سورة الحج
( 2 ) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ {5} سورة السجدة
( 3 ) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ {4} المعارج
وبالطبع فمحاولة تحديد نسبة حساب الزمن عند الله هو ضرب من العبث ، وتحميل الإنسان ما لا يطيقه .
( 12 )
صراع من أجل التسليم للإيمان
بقلم جفرى لانج
الفصل الثانى
القرآن الكريم Struggling to Surrender Dedication
يقول المؤلف ، بأن "محمد على" ، (أعتقد انه يشير إلى "محمد على جناح .. مؤسس دولة باكستان") ، نبه بأن كلمة "تقدير" ، لم ترد فى القرآن الكريم لتدل على أن الله سبحانه وتعالى ، قد قدر علينا فعل الخير وفعل الشر ، بمعنى أننا مسيرين لا مخيرين ، وأن الكلمة جاءت بمعنى الدقة فى الخلق والتقدير المحكم ، كما تبين الآيات التالية :::
*( 1 ) *سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى {1} الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى {2} وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى {3} سورة الأعلى
( 2 ) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ {49} سورة القمر
( 3 ) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ {38} وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ {39} سورة يس
( 4 ) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ {18} مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ {19} سورة عبس
(مداخلة : راجعت مشتقات الكلمة بمعجم ألفاظ القرآن الكريم ، كلمة كلمة ، فلم أجد قط معنى تقدير أعمال الإنسان من خير وشر ، أما ما ورد بالأحاديث من الإيمان بالقدر خيره وشره ، فهذا ينصب على ما يقع على الإنسان من أحداث خير أو شر لكى يختبر ، "كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ {35} سورة الأنبياء" ، بمعنى "قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ {51} سورة التوبة) .
ولا يفهم أحد من المسلمين من هذه الآيات ، أنه سبحانه خلق الخلق وقدره ، ثم تركه يعمل تلقائيا ، بل هو قيوم السموات والأرض وهو رب كل شئ ومليكه ، وهو الذى يمسك السموات والأرض أن تزولا ، وكل شئ يدار بحكمته وعلمه .
(مداخلة : يحضرنى هنا محاضرة سمعتها من شيخنا الفاضل "محمد متولى الشعراوى" ، فى مسألة التسيير والتخيير ، أضيفها هنا لإثراء الموضوع ، وقد كنت قد قرأت بعضا منها فى كتاب "مدارج السالكين" لابن القيم فى شرح سورة الفاتحة ... الأصل هو هذه الآيات الكريمة "وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا {7} فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا {8} قَدْ
أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا {9} وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا {10} سورة الشمس" ، فالإنسان هو الذى يزكى نفسه فيكون من المفلحين ، وهو الذى يكون سببا فى خيبتها . والهداية كما وردت فى القرآن الكريم ، هداياتان ، هداية الرسل ، وهى لا تتعدى البيان والإيضاح ، وهداية استأثر بها سبحانه ، وهى هداية التمكين والثبات .
فحينما يقول الله للرسول "إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ {56} سورة القصص" ، فهذه الهداية التى استأثر بها سبحانه ... وحينما يقول "وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ {52} سورة الشورى" ، فهذه هداية الشرح والبيان ، هداية الرسل . وبناء على ذلك لا يختلط الأمر حينما تذكر أيا من الهدايتين .
وكثيرا ما كنت أقول لبعض المسلمين حينما أطلب منهم الإلتزام وأداء الصلاة ، فيردون على بنوع من التراخى قائلين "ربنا يهدينا" ، فأقول لهم "لقد هداك الله فعلا ، وهذه الهداية التى تطلبها ، أطلبها فى المسجد وعلى سجادة الصلاة ، فقد هداك الله بما أرسل به الرسل ، فإذا اهتديت بهذه الهداية فلتطلب منه التمكين والثبات" . فالله يقول "وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ {17} سورة محمد" ، فنسب الهداية لك أولا ، فإذا اهتديت أتاك من فضله .
وبالمقابل فال فى اليهود "وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ {5} سورة الصف" ، فالجزاء من الله سبحانه العادل ، هو من جنس العمل .
وكان من استشهاد فضيلته لتوضيح المعنى هذه الآية "وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ {17} سورة فصلت" . فقد ذكرت الآية الهداية المنسوبة للبشر ، بحيث يقبلوها او لا يقبلوها ، لأنه لو كان المقصود هداية التمكين من الله ، لكانوا أجبروا على الهدى .
أما بخصوص علم الله المحيط بكل شئ ، فهو لا يؤثر فى فعل الإنسان بل يعلم ماذا ستفعل . وضرب مثلا على ذلك ، بمدرس أحد العلوم طلب من مدير المدرسة تقييم طلبته ، فقيمهم له وأعطى كل طالب درجة ، فطلب منه المدير أن يعقد لهم اختبار ، فعقد لهم الإختبار ، وكانت نتيجته هى نفس ما تنبأ به المدرس ... فهل علمه بمستواهم أثر على أدائهم فى الإختبار ؟؟؟ ... وهكذا علم الله ، ولله المثل الأعلى) .
هدف الإنسان من الحياة :
إذا لم تؤمن بأن هناك حياة أخرى بعد الموت ، فتصبح حياتنا هذه فى نظرك حياة لا معنى لها . ويصبح قبولك للفضائل والقيم عبثيا ، ولا تؤدى بك للإعتراف بوجود الله سبحانه وتعالى ، ولا لربط هذه الفضائل والقيم بعظمته . أما إذا آمنا بالله ربا ، فسنربط كل قيمنا ومفاهيمنا من العدل والحب والتعاطف والتسامح والصدق والرحمة به ، وسيصبح لها معنى فى حياتنا ، لأنها فى هذه الحالة مرتبطة بالله سبحانه ونابعة من عظمته . وهنا ، نفس الحياة يصبح لها معنى ، ويصبح ما نلاقيه من شظف العيش والمعاناة والخطأ والصواب الذى نقع فيه ، مقبولا ما دمنا نربطه باليوم الآخر . ما هو الغرض مما نلاقيه من صعوبات ؟ لماذا لم تبدأ حياتنا كبشر فى الجنة ؟ وكانت الحياة الدنيا فى تقدير الله سبحانه وتعالى مرحلة لابد منها لوجود الإنسان :
( 1 ) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ {191} سورة آل عمران
( 2 ) *وَمَا خَلَقْنَا السَّموَات وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ {38} سورة الدخان
( 3 ) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ {16} لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ {17} سورة الأنبياء
( 4 ) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ {115} فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ {116} سورة المؤمنون
وفى حديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "إنما الأعمال بالنيات ......" . ومفهومنا للهدف من الحياة يجب أن يعتمد على تأكيدات القرآن الكريم المترابطة ، وذلك للحصول على السعادة فى الدارين ، الدنيا والآخرة :::
( 1 ) فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً {59} إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئاً {60} جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً {61} لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلَّا سَلَاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً {62} تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً {63} سورة مريم
( 2 ) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى {17} الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى {18} وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى {19} إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى {20} وَلَسَوْفَ يَرْضَى {21} سورة الليل
( 3 ) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ {6} سورة التين
( 4 ) فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ {7} وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ {8} سورة الزلزلة
الإيمان بالله ، يؤدى إلى الأعمال الصالحة ، والسعادة الدائمة ؛ والإستقامة فى العمل إذا أديت بالنوايا الصادقة ، فهى تؤدى إلى مزيد من الإيمان وسلام داخلى أعمق . الله سبحانه ، ليس محتاجا لأعمالنا ، والخلاص الحق لا نصل إليه بمجرد الطقوس والشكليات ، فى العلاقات الإنسانية الإيمان الحقيقى يترجم بمدى التبتل فى العمل وخدمة المجتمع البشرى :
( 1 ) *لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ {177} سورة البقرة
( 2 ) وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ {36} لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ {37} سورة الحج
( 3 ) كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ {110} سورة آل عمران
( 4 ) وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ {6} سورة العنكبوت
( 5 ) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً {96} فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً {97} سورة مريم
يربط القرآن الكريم ، سعادتنا وشقاءنا سواء فى الدنيا أو الآخرة ، بعقيدتنا ومدى تفاعلنا مع المجتمع الإنسانى . لذلك نجد الفتنة والإختبار فى كل لحظة من حياتنا ، فى أزواجنا ، أبائنا ، أبناءنا ، أقاربنا ، الفقير ، اليتيم ، ابن السبيل ، فى ثرواتنا ، فى نزاعتنا بعضنا مع البعض ، وهكذا . ويحضنا على أن نعطى أكثر مما نأخذ ، لنعفو ولا ننتقم ، نحب ولا نكره ، لنتعاطف ، لنكون عدولا حتى مع أعدائنا ، وذلك لأن هذه الأمور هى التى تجلب لنا السعادتين . يحثنا القرآن على كل ذلك ، وفى نفس الوقت لا ينهانا عن زينة الدنيا للإنسان ، فهى ضرورية له للحياة ، مع الحرص على أن نكون مع الله فى كل الأحوال .
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ {14} قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ {15} سورة آل عمران
وهكذا يصف لنا القرآن الكريم ، ما نلقاه فى الآخرة نتيجة صبرنا وصدقنا فى الإيمان بالله ، وكرمنا مع المحتاج ، وتبتلنا فى طلب المغفرة لخطئنا من قلوب خاشعة :::
قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ {15} الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ {16} الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ {17} سورة آل عمران
( 13 )
صراع من أجل التسليم للإيمان
Struggling to Surrender Dedication
بقلم جفرى لانج
الفصل الثانى
القرآن الكريم
حينما كنت طفلا ، سألت أبى "أتعتقد يا أبى أن دخول الجنة متاح لنا ؟" ... فقال "لا أتخيل هذا ، لأن الإنسان لن يستطيع التغلب على الحسد ، والكراهية ، والجشع ، والغضب ... وإلى حد ما فقد رأيت أنه مصيب فى قوله ، لأن الإنسان لا يصح له العيش فى الجنة إلا إذا تخلص من هذه الآفات إلى حد كبير !!!
وهذا لا يعنى أن الإنسان لابد أن يكون مثاليا ، ولكن عليه أن يحاول للوصول لها والتغلب على الآفات وسيجد العون من الله .
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ {7} سورة العنكبوت
وعند دخولهم الجنة يتم تطهيرهم ليكونوا أهلا للبقاء بها :::
وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَـذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ {43} سورة الأعراف
وهكذا فالغرض من الحياة الدنيا بدأ فى الوضوح . ننمو فى الفضيلة ونقاوم الرذيلة ، نعيش للقيم الرفيعة ، والحكمة ، والعدل ، والرحمة ، والتسامح ، والحق ، والإهتمام والحب للآخرين ، والتعاطف ، والصبر ، والكرم من خلال كفاحنا ومقاوماتنا . ويذكر كل ذلك فى القرآن الكريم ، على انه من علامات الإيمان الصحيح . لا نفعل كل ذلك لمجرد أن نحقق الأمة الفاضلة ، بل لأن هذه هى صفات الله سبحانه وتعالى الواحد الباقى ، مطلق الصفات . وبتبنى هذه الصفات نكون أهلا لرحمته سبحانه وفضله وعفوه ومغفرته ونكون من المقربين لديه .
خذ كمثال ، عاطفة الحب ... كلما ازددنا تذوقا لحب البشر ، كلما نضجت تجربتنا فى حب الله . أنا أفهم أن شعور أطفالى بحبى لهم أكبر من شعور كلبى بحبى له أكبر من شعور سمكتى بحبى لها , وذلك لأن إدراك أطفالى لهذا الشعور ، أعلى درجة من شعور كلبى وسمكتى . كما أن إدراكى لحب والديى لى ، يختلف الآن عن فترة الصبا . وذلك بعد أن أنجبت أطفالى ، ازداد شعورى لعاطفة حب الآباء لأبنائهم . ولهذا فكلما زدنا فى تجاربنا هذه ، كلما زدنا فى حب الله العظيم ، هنا فى الدنيا وهناك فى الآخرة .
"مداخلة : يفسر كثير من المفسرين معنى الخلافة فى الأرض ، بأنها خلافة الإنسان عن الله سبحانه ، وهذا المعنى ليس ببعيد ، فالمطلوب من البشر أن يجاهدوا أنفسهم ليحققوا كثيرا من صفات الله فى الأرض ، فجمال هذه الصفات وحسنها ، تدفع الإنسان للعمل على التشبه بها كإنسان لا كإله ، وتمسكه بهذه الصفات لا يخرجه عن بشريته ، بل يدل على حبه لخالقه .
كما أن هذه اللفتة ، تجعلنا نفكر فى معنى العبودية لله ، فصفات الله الحسنى ، لا يدور فيها إلا العبد المؤمن ، فالله قد خلقك وصورك ، فوجودك هو عبودية فى أسمائه سبحانه الخالق المصور ، والله منحك العلم وعلمك وعلم آدم الأسماء كلها ، فبعلمك تعبده فى اسمه العليم ، وأنت كمؤمن بالله ، قد تخطئ فتتوب ، فيقبل توبتك التواب الرحيم ، ويغفر لك ذنبك الغفور العفو ، وحينما تخطئ تعترف بضعفك أمام القوى وترى فضله عليك ، وهكذا ...... يدور المؤمن فى صفات الله كلها ، قد يكفيك منها تسعة وتسعون اسما كما ورد فى الحديث الشريف ، وإن زدت عن ذلك ، فهذا فضل الله يؤتيه من يشاء .
أما غير المؤمن بالله ، فهناك أسماء وصفات ، تسرى عليه رغم أنفه ، وهناك أسماء أخرى لا يقترب منها ظلما لنفسه ، كالتواب والرحيم والغفور والعفو والشكور ....... " .
يوم الحساب :
يوصف يوم القيامة ، حيث يتم فيه الحساب ، فى القرآن الكريم بأنه اللحظة الحاسمة التى لا حصر لها ، والتى تعرض فيها حقائق سعينا فى الحياة الدنيا واضحة لا يخفى منها خافية . فى هذا اليوم سنواجه بحقيقة ما وصلنا إليه ، وما كنا فيه من غفلة ولهو ، وسنترك وحيدين مع معتقداتنا الرئيسية وإنجازاتنا الروحية :
فى هذه اللحظة :
فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ {7} وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ {8} سورة الزلزلة
وحسب التعبير القرآنى فمن ثقلت موازينه سينعم ويجد الحياة الرغدة ، وأما من خفت موازينه ، فسيلقى سعيرا وعذابا وحياة تعسة . كل ذلك بناء على تصرفاتنا الروحية والأخلاقية فى الدنيا . وبما أن هناك درجات فى الإلتزام الروحى والخلقى فى الدنيا ، فكذلك يقابلها درجات فى الجنة فى الآخرة . والعذاب فى النار كذلك دركات ، حسب دركات الإجرام فى الدنيا . وهذا كما هو موضح بالقرآن الكريم وبالسنة المحمدية . مرحلية تبدأ بوجودنا بالدنيا وتتطور لنصل إلى مصيرنا بالآخرة ، كما يحدث للجنين فى بطن أمه ، وعندئذ "........ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ......." .
تمر بنا فى حياتنا ومن تجاربنا ، ملامح ضئيلة جدا مما سنلقاه فى الجنة . عدم الأنانية ، والحب الذى يؤدى إلى التضحية بالنفس ، ويتمثل فى حب الآباء لأبنائهم . فكلما أنظر إلى بناتى الثلاثة وهن نيام بالليل ، أقف أمامهن أنا وزوجتى بشعور فياض ، وإحساس غامر بالدفء يملأ عينيى بالدموع ، وكما يقول المسلمون "شعور يساوى الدنيا وما فيها" .
"مداخلة : بمناسبة ذكر عدم الأنانية ، فكلما دعوت بهذا الدعاء (اللهم ما أصبح بى من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك فلك الحمد ولك الشكر) ، أشعر بجمال الإسلام وبروعة هدى الرسول صلى الله عليه وسلم ، فأنا أحمد النعمة على وعلى غيرى لأنها من رحمة الله سبحانه وتعالى ، ولا أحسد هذه النعمة على غيرى " .بجوار هذه الجماليات وهذه السعادة ومتوازيا معها ، نجد الإنحطاط الخلقى والمعاناة . ولكن لماذا ؟؟؟ فالجماليات التى ذكرناها تزين الحياة وتجعلها عظيمة البهجة - فلماذا لم نخلق من البداية هكذا أنقياء أتقياء ؟ لماذا لم نخلق مستقرين فى الجنة ؟ لماذا لم نكن مبرمجين على الخير فقط ؟
الجواب عن ذلك ، قد يكون واضحا : فالفضيلة ، إذا برمجت ، لن تكون الفضيلة الحقيقية ، فستكون شئ أقل . قد تبرمج كومبيوتر مثلا ، على ألا يصدر بيانات خاطئة ، وبالرغم من ذلك فلن يكون كومبيوتر مثاليا . وكذلك فجهاز الأشعة المقطعية (CAT Scanner) لا يمتلك الشفقة بالرغم من أنه يساعد المريض . القرآن الكريم ذكر أوصاف الملائكة بأنهم "......... لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ {6} سورة التحريم ، وبالرغم من ذلك فالإنسان أفضل من الملائكة :
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ {30} وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ {31} قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ {32} قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ {33} وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ {34} سورة البقرة
فقد أكد القرآن الكريم على ثلاث صفات للإنسان ... الإرادة الحرة ، أو القدرة على الإختيار .. الفهم ، وهو الأداة لوزن نتائج اختياره والتعلم منها .. وثالثا ، وهذا فى نفس الأهمية ، هو مجابهة الشدائد .
نعود للمثالين السابقين ، لتتعلم الصدق ، يقتضى هذا إمكانية الكذب ، وبالتالى حرية الإختيار والتمييز . المستوى العالى من الأمانة يمكن الوصول إليه ، إذا أصررنا على قول الصدق حتى فى الشدائد ، واحتمال الخسائر الطبيعية والمادية . لتكون عطوفا ، لابد أن تقاسى وتتجاهل المشقة فى سبيل ذلك . وهكذا كل القيم :
الحب .. الصدقة .. العدل .. التسامح ..... الخ . لكى تمارس هذه الفضائل ، لابد أن تكون مخيرا لتمارس ما هو ضدها من كره ، وجشع ، وظلم ، وغضب ، فى جو من معاناة الفضيلة .
من الطبيعى ، أن يكون لدينا حب الخير من البداية ، على الأقل بذور من الفضيلة والتقوى حينما جئنا لهذه الدنيا . وهذا ما يفهمه المسلم ، من قوله سبحانه "فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ {29} سورة الحجر" .
وهذا يوضحه أيضا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"ما من مولود إلا يولد على الفطرة ، فأبواه يهودانه ، أو ينصرانه ، أو يمجسانه ، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء ، هل تحسون فيها من جدعاء ، ثم يقول : { فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم } .
الراوي: أبو هريرة - خلاصة الدرجة: صحيح - المحدث: البخاري - المصدر: الجامع الصحيح"مداخلة : الروح من أمر الله وأمر الله يندرج تحت هذه الآية الكريمة (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ {82} سورة يس) ، فالروح خلق من خلق الله ، ونسبتها لله كنسبة الأشياء التى فضلها الله من خلقه ، كبيت الله ، وعبد الله ، وناقة الله ، ورسول الله ، وكتاب الله" .
الهدف من البأساء والضراء ، والمعاناة والكفاح فى الحياة الدنيا ، هى لكى نطور أوضاعنا الروحية والأخلاقية ، بالإضافة لنتذكر دائما الغرض المطلوب منا فى هذه الحياة وفى الأوقات العصيبة ، وهذا كما يبينه القرآن الكريم :
( 1 ) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ {155} الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ {156} سورة البقرة
( 2 ) أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ {214} سورة البقرة
( 3 ) لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ {186}
( 4 ) يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ {6} سورة الإنشقاق
( 5 ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ {200} سورة آل عمران
وهكذا فالحياة الدنيا هى المجال المتاح لنا للتقدم والتقهقر الروحى والخلقى ، وبالرغم من أنه سبحانه قد أعطانا الفرص العديدة للهداية ، إلا أنه لم يجبلنا عليها :
"........... أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَن لَّوْ يَشَاءُ اللّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً .........." {31} سورة الرعد
ترك لنا التجربة ، وبالإرتفاع على اخطائنا ، والعودة إليه والتوبة ، نصل إلى مستويات عالية من الصفاء ، بل يعيننا الله للوصول إليها :
إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً {70} سورة الفرقان
( 14 )
صراع من أجل التسليم للإيمان
Struggling to Surrender Dedication
بقلم جفرى لانج
الفصل الثانى
القرآن الكريم
إنكار الألوهية ... كمثل ... لاشك أنه من أخطر الذنوب ، ولكن أن تقع فى هذا الذنب ، وتعايش البؤس والفراغ الذى يتغشاك ، ثم تجد حلاوة الإيمان ، لهى تجربة قيمة جدا بالرغم من قساوتها ، نتيجة لرفضك الإيمان بحقيقة تم تحذيرك منها - وأصبحت اليوم من الدروس الواضحة المعالم .
روحانياتنا يحدث لها ركود إن لم يكن هناك إمكانية الخطأ ثم التحقق من الصواب ثم التكيف للحق . وفى صحيح مسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "والذي نفسي بيده! لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون، فيستغفرون الله، فيغفر لهم". ونقرأ فى القرآن الكريم :::
( 1 ) مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُّرْشِداً {17} سورة الكهف
( 2 ) فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ {8} سورة فاطر
( 3 ) ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ {23} سورة الزمر
يقول جولدزهير "Goldziher" أن التعبير هنا ، لا يعنى أن الله يجبر أحدا على الضلال ، بل يتركه لضلاله إن أراده . وكذلك إن أراد الهداية أعانه الله عليها ، كما يتضح من الآية التالية :::
وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ {110} سورة الأنعام
ولنتصور مسافر يريد الوصول إلى هدف ما ، فوصل لمفترق طرق ، فسأل عن الهداية ، فدُل على الطريق الصحيح ، فإما أن يقبل ما دُل عليه مصدقا لمن دله ، ويسير فى الطريق الذى يوصل إلى هدفه ، وإما أن يرفض الهداية شاكا فيمن دله ، ويسير فى الطريق الخطأ ، هنا فمن قبل الهداية ، يساعد على مصاعب الطريق وتوضح له العثرات التى سيقابلها ، أما ألاخر فيترك لضلاله وعمايته .
والقرأن الكريم يبين لنا من هم الذين يستحقون الضلالة من الله ، ومن هم الذين يستحقون الهداية . ففى الضلالة (الفاسقين "البقرة : 26" .. الظالمين "البقرة : 258" .. الكافرين "البقرة : 264") ... وفى الهداية من اتبع رضوانه "المائدة : 16" .. يهديهم ربهم بإيمانهم "يونس : 9" .. وهدوا إلى الطيب من القول "الحج : 24" .. آمنوا بربهم وزدناهم هدى "الكهف : 13" .. ويزيد الله الذين اهتدوا هدى "مريم : 76" ) .ومن هذا يتضح بأنه سبحانه ، لا ينظر إلا إلى المخلص والراغب فى التوجه لعظمته ، والله يهدى الذين يبحثون عنه :
وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ {186} سورة البقرة
وهناك حديث يعرفه المسلمون جيدا ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
يقول الله تعالى : أنا عند ظن عبدي بي ، وأنا معه إذا ذكرني ، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم ، وإن تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا ، وإن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا ، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة
الراوي: أبو هريرة - خلاصة الدرجة: صحيح - المحدث: البخاري - المصدر: الجامع الصحيح
القاعدة كما وردت بالقرآن الكريم ، أن المستفيد الرئيسى من توجيه الإرادة والعمل الصالح ، أو العكس ، لا أحد غير أنفسنا :
( 1 ) وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ {6} سورة العنكبوت
( 2 ) قَدْ جَاءكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ {104} سورة الأنعام
( 3 ) إِنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ {41} سورة الزمر
من الآيات أعلاه ، يتبين لنا نظرة الإسلام لارتكابنا للذنوب ، فهى مدمرة لنا بفعلنا نحن لها لأنها تخرجنا عن طبيعتنا . فالله سبحانه لم يجبرنا على فعلها ، بل نحن الذين أسأنا إلى أنفسنا :::
( 1 ) لَّقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ {181} ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ {182} سورة آل عمران
( 2 ) وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ {50} ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ {51} سورة الأنفال
( 3 ) هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ {53} سورة الأعراف
( 4 ) أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وِأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَـكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ {70} سورة التوبة
أنا مدين "لفضل الرحمن" بملاحظاته هذه فى هذا الشأن ، وذلك ما ورد فى كتابه "موضوعات رائدة فى القرآن Major Themes of the Qur'an" .
ومن رحمة الله سبحانه ، أنه يقبل التوبة عن عباده المنيبين إليه :
قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ {53} سورة الزمر
العبارة التى وردت فى الآية "أسرفوا على أنفسهم" ، معناها ظلموا أنفسهم ، وحرموها من الخير واضطهدوها ، وهذا يوحى بأن اقتراف الذنب ، ما هو إلا تحطيم للنفس . وحينما يقول القرآن الكريم بأننا نرتكب ظلما لأنفسنا ، فهذا لأننا بالفعل نؤذيها ونسرق منها نمونا الروحى .
الطريق المستقيم :
حدد سيجموند فرويد "Sigmund Freud" ثلاثة عناصر للتأثير فى روح الإنسان : الهوية .. الأنا .. الأنا العليا . ويعرف الهوية بأنها مصدر الطاقة الروحية التى تثير الميول الحيوانية فى الإنسان والتى تعمل على بقائه الحيوى ، كالجشع ، والقوة ، والشهوة ، والحقد والتفاخر بالنفس . أما الأنا العليا فهى المسئولة عن حبه للفضيلة ، والأخلاق ، والذنب . فهى تدفعنا إلى ما نعتبره قيم عليا ، وأمور نبيلة . أما الأنا ، فهى الفكر الذى ينظم ويتحكم ويوازن بين إحتياجات الهوية مع متطلبات المجتمع والأنا العليا . ويعتقد فرويد ، بأن الشخصية الصحية ، هى التى يوازن فيها "الأنا" بين العنصرين الآخرين ، الهوية والأنا العليا بكفاءة ، لأنه فى حالة هيمنة أحدهما على الآخر ، فهذا يؤدى إلى تدمير النفس أو المجتمع . مفهوم فرويد هذا ، أدى إلى محاولات ودراسات ، للتمييز بين هذه العناصر الثلاثة .
وهذا التحليل صحيح من الوجهة الإسلامية ، فالعناصر الثلاثة تندرج تحت ، الشيطانية .. النفس .. الملائكية . فالشياطين سواء من الإنس والجن ، كما ورد بسورة الناس ، توسوس للإنسان بطريق خفى ليشبع رغباته ، والملائكية بالإضافة لأشياء أخرى ، تلهم بالشهامة والتضحية بالنفس . أما النفس فهى شخصية الإنسان التى توازن وتتحكم فى هذه التأثيرات . "مداخلة : النفس أُلهمت فجورها وتقواها حسب ما جاء بالقرآن الكريم ، وهنا يتنازعها الشياطين والملائكة ، الشياطين للفجور ، والملائكة للتقوى وذلك حسب ما جاء فى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إن للشيطان لمة بابن آدم ، وللملك لمة : فأما لمة الشيطان ، فإيعاد بالشر ، وتكذيب بالحق ، وأما لمة الملك ، فإيعاد بالخير ، وتصديق بالحق ، فمن وجد ذلك ، فليعلم أنه من الله ، فليحمد الله ، ومن وجد الأخرى ، فليتعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، ثم قرأ : { الشيطان يعدكم الفقر ويأمر بالفحشاء } الآية)) ... وبهذا فالشيطان يلعب على الفجور فى نفس الإنسان ، والملك ينبه فيها التقوى" .
هذه العناصر الثلاثة ، إذا تحكم فيها الإنسان بكفاءة ، كانت النتيجة لصالح الفرد والجماعة . ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ورد فى صحيح مسلم "ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن . قالوا : وإياك ؟ يا رسول الله ! قال : وإياي . إلا أن الله أعانني عليه فأسلم . فلا يأمرني إلا بخير . غير أن في حديث سفيان . وقد وكل به قرينه من الجن ، وقرينه من الملائكة" .
الزوجية هى سنة الخلق كما ورد فى القرآن : وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ {49} سورة الذاريات . فخلق الإنسان من مادة وروح للتكامل لا للتنافر بينهما ، وذلك يكون بالميزان الذى قدره سبحانه : وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ {7} أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ {8} سورة الرحمن
فالمسلم يجاهد نفسه ليحفظها على الطريق الوسط بين المادية والروحية ، بين الإنحطاط والسمو - وذلك من خلال الهداية والعمل والكفاح والخطأ والصواب . هو يحاول التقدم والنمو بالتقوى كما يقول القرآن ، وترجمتها "الخوف" ، والمعنى القرب هو "اليقظة" أو "المدافعة" ، وفى عرف الإسلام يكون ذلك بنقد النفس واتهامها والإستعداد للإستسلام للإيمان .
ويحذر القرآن أتباعه المؤمنين بتصويره للمنافقين والكذابين والجبناء والبخلاء ، ذاكرا أن هذه الآفات هى التى تحطم الإنسان . حاثا لهم على أن يحاسبوا أنفسهم ، ويراجعوا نياتهم ومدى صدقها : وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ {48} سورة الحاقة
كان أول ما أمر جبريل به الرسول عليه الصلاة والسلام القراءة ، وبالنسبة لنا ، فقراءة القرآن الكريم والمداومة على قراءته ، تنير لنا طريقنا المستقيم ، فالقرآن ينذر ويبشر ، كما أن الفرائض من صلاة وصيام وزكاة وحج ، تعين المؤمن فى مراحل حياته وتأطره أطرا لهذا الطريق المستقيم . فهذه الفرائض تذكره باستمرار بهدفه ، وتعمل على تقوية شعوره الداخلى وعزيمته وسلوكه .
فى الغرب ، حينما سلم أحدهم يشعر بأنه يزحف فى ركن ما . وفجأة يجد نفسه أمام المشككين ، والمصدومين ، وفى بعض الأحيان الرافضين لسلوكه هذا ، سواء من العائلة أو الأصدقاء أو الزملاء . بالطبع هذا من رواسب القرون الطويلة فى مهاجمة الإسلام والخصومة له ، وتشويه مفاهيمه ، ووسائل الإعلام الحريصة على ذكر كل نقيصة تتحدث . ولا شك أن هذا من التحديات التى تواجه من يدخل فى الإسلام حديثا .
بالنسبة لى شخصيا ، فقد وجدت فى المواظبة على الصلاة العون على ذلك والمساعدة فى مواجهة الصعوبات . خصوصا صلاة الفجر ، وفى البداية وجدت صعوبة فى انتزاع نفسى من السرير الساعة الخامسة صباحا ، فوجدت العون بأن أضبط ثلاث ساعات لتوقظنى ، أحدها بجوار السرير والأخرى بمكان بعيد بعض الشئ ، والثالثة بالقرب من دورة المياه . وأجعل بينها فرق خمسة دقائق لكل ، فحينما تدق التى بجوارى تلقائيا أسكتها ، وبعد خمس دقائق تدق الثانية ، فأتحرك لأطفئها ، وبعد الخمس الأخيرة أذهب لدورة المياه لأنوضأ وأؤدى الصلاة فى موعدها . وبعد فترة تناقصت الثلاث لاثنتين ثم لواحدة ، بل فى بعض الأحيان لو حدث سهو فى ضبطها ، أجدنى أقوم فى الوقت المحدد دون تنبيه . وهكذا كل الشعائر الإسلامية تحتاج إلى مثل هذه الأمور لتربية النفس .
( 15 )
صراع من أجل التسليم للإيمان
Struggling to Surrender Dedication
بقلم جفرى لانج
الفصل الثانى
القرآن الكريم
بالنسبة لى شخصيا ، فقد وجدت فى المواظبة على الصلاة العون على ذلك والمساعدة فى مواجهة الصعوبات . خصوصا صلاة الفجر ، وفى البداية وجدت صعوبة فى انتزاع نفسى من السرير الساعة الخامسة صباحا ، فوجدت العون بأن أضبط ثلاث ساعات لتوقظنى ، أحدها بجوار السرير والأخرى بمكان بعيد بعض الشئ ، والثالثة بالقرب من دورة المياه . وأجعل بينها فرق خمسة دقائق لكل ، فحينما تدق التى بجوارى تلقائيا أسكتها ، وبعد خمس دقائق تدق الثانية ، فأتحرك لأطفئها ، وبعد الخمس الأخيرة أذهب لدورة المياه لأنوضأ وأؤدى الصلاة فى موعدها . وبعد فترة تناقصت الثلاث لاثنتين ثم لواحدة ، بل فى بعض الأحيان لو حدث سهو فى ضبطها ، أجدنى أقوم فى الوقت المحدد دون تنبيه . وهكذا كل الشعائر الإسلامية تحتاج إلى مثل هذه الأمور لتربية النفس . إختبارها لمدى الإلتزام ، ثم تعويدها على مقاومة الشيطان .
وقد ناقشت بعض أصدقائى ، وقلت لهم ، بغض النظر عن عقيدكم ، لو استطعتم أن تعودوا أنفسكم على الإستيقاظ يوميا فى الخامسة صباحا ، ستشعرون بأنكم قادرون على تحدى ما هو أصعب من هذا .
وتأتى مرحلة لمن اعتنق الإسلام حدبثا ، بعد النشوة التى شعر بها لدخوله إلى النور ، حينما يصبح الإلتزام والشعائر ثقال وروتينى .
"مداخلة : هذه هى مرحلة نشاط الشيطان ليخرج الناس من النور إلى الظلمات" .
وكما ذكرت سابقا ، فالمؤمنون الجدد يرون فى ذلك إختبارا وتمحيصا وتدريبا على المثابرة وتقوية العزيمة والإلتزام بالإيمان . ولذلك فهم يرون أن شعائر الإسلام تساعد المسلم على نفسه وعلى الشيطان . وذلك يمتد لكل العبادات من صلاة وصيام وزكاة وحج . وهذا هو جمال الإسلام . ولهذا فالمسلم الملتزم ، يجد نفسه يترقى فى تمسكه بالإسلام من يوم ليوم ، ويستشعر وجود الله سبحانه وتعالى فى كل وقت وحين ، ويزداد حبا لله ، هذا الحب الذى يسيطر على حياتهم ويوجه أفعالهم لكى تكون خالصة لوجهه الكريم . وهذا ما أسميه "عناقا قدسيا" . وهكذا ، فالشعائر بالنسبة للمسلم ، هى أبواب مفتحة لتنسم الحياة ، والشعور بحقيقتها ، وأنه أصبح لها معنى ، أفضل من أى شئ آخر على الأرض . وفى النهاية ، فإن هذا العطش لهذه الحياة الروحية ، وهذا الحب القدسى ، لهى المعين على الصعاب ، وهى الأمل للوصول لحياة أفضل من الحياة الدنيا .
وبالنسبة لى ، فصلاة الفجر فى المسجد واحدة من أجمل الشعائر المحركة للشعور فى الإسلام . هناك شئ باطنى فى الإستيقاظ والناس نيام ، واستماع آيات القرآن الكريم بأصوات ندية تملأ الظلام . فكأنك لفترة قد تركت هذه الدنيا لتَسْبَحَ مع الملائكة وفى الكون لتكون مع الله العلى العظيم .
على كل حال ، فالعبادة فى الإسلام تغطى معنى أكثر من أنها طقوس ، وكما هو الحال فى العديد من المفاهيم الإسلامية ، فجوهر العبادة يفهم من نفس الكلمة . العبادة مشتقة من كلمة"عبْد" أى خادم ، وبذلك فالهدف من العبادة هى الإلتزام التام والخضوع لله سبحانه وتعالى . والشرك فى العبادة هو أن تذل نفسك وتُعَبدُها لغير خالقك وتشرك معه آخرين والنتيجة هى تحطيم ذاتك . وحينما يقول القرآن الكريم "أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً {43} سورة الفرقان" ، فهو يصور هذا الشخص الذى صار عبدا لأهواءه . وهناك أمثلة كثيرة تبين مدى تحكم الجشع والتقاليد والفخر والثروة والرغبات المختلفة بالإضافة إلى المؤلهين فى الدنيا . لكى تكون عبدا لهذه الآلهة الخاطئة ، لتنافس عبادتك لله وحده ، فسيبعدك ذلك عن تزكية نفسك وكمالها ، وظلمها ودمارها . الأمان الحقيقى والسعادة للإنسان ، هى تطويع رغباته لعبادة الله ، والحرص على ألا ينحرف نظره عن هدفه هذا .
المسلم لا يرى خضوعه لله سبحانه وتعالى هزيمة أو إذلال له ، بل يرى فيه حريته الحقيقية وإنسانيته الصحيحة ، بكل معنى الكلمة . هذا الخضوع لله ، هو نظام للهداية : داخليا نحو نفسه ، وخارجيا نحو زملائه من المخلوقات ، وذلك إضافة لعودته إلى خالقه كهدف نهائى . على الأقل يطلب المسلم من الله سبحانه وتعالى هدايته للصراط المستقيم ، سبعة عشرة مرة ، فى صلاته ، الصراط الذى يؤدى إلى الأمن الداخلى . الصراط الذى إذا كشف لنا ، حصلنا على القوة ، والجمال ، والسعادة المطمئنة فى هذه الحياة ، وفى الحياة الآخرة . حياة الإنسان صراع وبحث عن الروعة والرفعة والإستسلام الجميل ، وسعداء الحظ من يحصلون عليه ، والكل يتمنى الحصول عليه ويتوق للإستسلام للإيمان ... هذا هو الإسلام .
إعتبارات داخلية :
الكتب المقدسة لها طريقة لإحراج الإنسان وتعرية أسراره وضعفه . قد تكون قاسية لقراءتها ، طارحة علينا أسئلة نتهرب من الإجابة عنها أو تأجيل ذلك . تدريجيا وبدون أن نلحظ ، يعمل القرآن الكريم على إضعاف مقاومتنا .
وبدون توقع منك وأنت تقرأ القرآن ، تأتيك هذه الآيات التى تكشف إنسانيتنا لتؤدى تأثيرها فيك :
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ {39} أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ {40} سورة النور
الملحد يعرف تماما ما هو الذى يستميت فى البحث عنه . يصرف حياته فى مسعى عقيم عن السعادة ، ويقضيها فى تتبع أشياء فارغة الواحدة بعد الأخرى ، يخرج من كل منها بالإحباط الذى يزيد من ظمأه بينما يتعلق بالظلام ويغرق فى أمور ؤقتية . *. يبرر ويحاجج فى قضيته متهما ومتحديا لله سبحانه وتعالى فى سبيلها . مؤكدا بأنه يجادل فى قضية نبيلة ، فى حين أنه يؤذى الناس ويؤذى نفسه قبلهم . هو ينغمس ببطء ويغلف نفسه بالضلالة .
"مداخلة : هذا وصف ملحد خبر الإلحاد ، ألا يتفق تماما مع قوله سبحانه وتعالى (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى {124} سورة طه) " .
وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ {204} وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ {205} سورة البقرة .
يتسابق فى الدنيا ليجمع أكثر مما يستهلك ظنا منه بأن فى ذلك سعادته ، وإلى أى مدى يكون هذا الجمع ؟؟؟ يظن أن رومانسيته تكون بعيدا عن الأسرة ويسعى لإشباع رغباته ، يتطلع للكمال ، ولن يملأ كل سرور الدنيا فراغ نفسه . والقرآن الكريم يؤكد له أن ثمرة عمله هذا سيراها حين لحظة الموت ، وحين البعث يوم القيامة . ولو أنه نظر إلى نفسه الآن بعين الحقيقة ، لتأكد أنه يعيش فى الجحيم :
أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ {1} حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ {2} كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ {3} ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ {4} كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ {5} لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ {6} ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ {7} ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ {8} سورة التكاثر
وحينما يصور القرآن الكريم ، الجبان والمنافق والمنكر للحق والمستبد وأزلامه والمرائى فى عبادته بينما يهمل معاناة المحتاجين ، يعرف القارئ له ، أن هذه الأمور ، إلى حد ما ، ليس من الإسلام فى شئ .
نقرأ فى القرآن صفة المنافقين حينما يحين موعد الصلاة :
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً {142} سورة المائدة
وكذلك صفة أؤلئكم المصلين الذين يرفضون عمل الخير لليتامى والمساكين والمحتاجين :
أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ {1} فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ {2} وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ {3} فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ {4} الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ {5} الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ {6} وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ {7} سورة الماعون
ومن الصور الأخرى ، فإننا نرى أنانيتنا حينما يطلب منا العون والقتال فى قضية عادلة وكيف أدرنا ظهرنا ولم نكترث لمن يشاركونا فى الإيمان :
وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَـذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيراً {75} سورة النساء
بمثل هذه الصور فى القرآن الكريم ، تكون تعرية أنفسنا وتعتبر موازين نقيس أنفسنا عليها . كما أن بالقرآن الكريم أمثلة أخرى ، للمصطفين عليهم الصلاة والسلام ، لتكون قدوة لنا : وهم الأنبياء مثل إبراهيم ، وموسى ، وعيسى ، ومحمد عليهم السلام ، ومن النساء مثل السيدة مريم ، وآسيا إمرأة فرعون المستبد ، وملكة سبأ الذى تحولت من الشرك للإيمان بالله ؛ وسحرة فرعون التائبون ، والذين أعلنوا جهارا إيمانهم بالله رغم إنذارهم بالصلب ، ومؤمن آل فرعون الذى جاهر بإيمانه تأييدا للنبى موسى ، وأصحاب الأخدود ، وأصحاب الكهف ، وصبر سيدنا يعقوب المسن كما ورد بسورة يوسف . صورا لرجال ونساء وأطفال ، وأزواج وزوجات ، من المؤمنين وغير المؤمنين - عمليا نوعيات مختلفة من البشر ، منظور إجتماعى متكامل يساعدنا على كشف أنفسنا والصراع الذى لا ينتهى فى الحياة : لنجيب لأنفسنا على هذا السؤال : "هل أستسلم للحق ؟ أم أحيد عنه ؟
هذه القصص ، تتوالى فى خطى سريعة . وتدفعنا للمواجهة بين المنكر والمدافع عن الحق . التوتر فى المجابهة يعمل على أن نصل إلى قرارا سريع ، فالحياة فى الميزان . وخلال هذه الصور تقريبا ، يلوح للمؤمنين بالإنذار . ويغطى القرآن هذه النزاعات من وجهات نظر متعددة : بالنسبة للنبى والذين يؤمنون به ، وذلك المعاند وأتباعه ، ويناقش حجج الفريقين :
قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَـذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ {109} يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ {110} سورة الأعراف
فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى {62} سورة طه
وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ {28} يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ {29} وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ {30} مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعِبَادِ {31} وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ {32} يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَوَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ {34} الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ وَعِندَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ {35} وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ {36} أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ {37} وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ {38} يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ {39} مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌوَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ {41} تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ {42} لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ {43} فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ {44} سورة غافر
ونجد أنفسنا مرغمين على السؤال ، "أين موقعنا من كل هذا ؟؟؟ من من هؤلاء أكون أنا ؟؟؟" .
يتبع