عرض مشاركة واحدة
  #14  
قديم 2007-11-02, 12:43 AM
باحث أثار باحث أثار غير متواجد حالياً
عـضـو ذهـبـي
 
تاريخ التسجيل: Jan 2007
الدولة: في قلب معشوقتي
المشاركات: 1,124

باحث أثار is on a distinguished road
افتراضي


فرحة وترحة


مع ترددي على جبل القهر صار لي مرافق من نفس سكانه اسمه شعبان مداوي في باكورة الشباب, تحمس لفكرة البحث, فكان إذا غاب يحيى الشمراني تكفل بقيادة السيارة, وقد طلبت منه أن يفتح عينيه على كل صخرة وشعب يستطيع الوصول إليه, فإن هو رأى لوحة أو نقشاً عليه أن يتصل بي لأجيء من جدة لتصويره. لقد كان شعبان مني كأحد أبنائي, أدعوه فيجيب, وآمره فيطيع, ويقضي في صحبتي اليوم كاملاً, دون أجر أو وظيفة, بل شهامة ونبلاً, لا تزال مقاطعة جيزان بخير, وبفضل هذا الشاب عثرنا على لوحة أكف الصبية ولوحة الراعي, ولم يعثر عليهما مصادفة, بل بالبحث وسؤال المسنين من سكان الجبل, وفرصته في هذا الجانب أفضل مني, فلو أني ذهبت أسأل كبار السن في جبل القهر لأثرت ريبتهم. حين اتصل بي شعبان وأخبرني أنه وجد لوحة ومقبرة أثرية غير معروفة التاريخ توجهت إليه دون إبطاء, وصعدنا الجبل وتوجهنا إلى الشامية, وأراني لوحة الراعي التي عرفت بها فيما سلف, وبعد تصويرها عدنا أدراجنا إلى المقبرة التي أخبرني عنها, وترجلت أمشي بين القبور وشعبان وأصدقائه لم يغادروا السيارة, ولم أعرف سبب تفضيلهم عدم النزول, وقد لفت نظري في المقبرة أنها فوق الأرض وليست في باطنها, يبنى القبر بناءً مستطيلاً فيه ضلعان أطول من الآخرين, وذلك برص الحجارة فوق بعضها دون خلب لاصق, حتى إذا ارتفع القبر على قدر معين وضع الميت داخله ثم دفن بتراب أظنه يؤتى به من المزارع المجاورة, والبعض الآخر من القبور بنيت بنصب عدد من الصفا للجدارين الطوليين بدلاً من رص الحجارة فوق بعضها, ويوضع الميت بينهما فوق الأرض ثم يهال عليه التراب المجلوب, وقلت لنفسي إن الذي أملى على هذه الأمة دفن الموتى فوق الأرض كون أرضهم صخرية يصعب حفرها, ويخيل إلي أن صخور بعض القبور مقطوعة ومهيأة لتناسب البناء, وهذا ما جعلني أميل إلى قول شعبان ورفاقه إنها في غاية القدم ولا يعرف زمانها. ومن هذه القبور ما يبلغ ارتفاع بنائه المتر, وأكثرها دون ذلك, والمبني منها برص الحجارة فوق بعضها يوحي بجاه المدفون, حيث هي أكثر إحكاماً, ومنها ما كأنه بني بالأمس لولا ما يدل عليه التراب الذي بداخله من قدم. وبعد أن قمت بتصوير تلك القبور عدت إلى السيارة وسألت شعبان ورفاقه وبإلحاح شديد إن كانت تلك المقبرة حقاً قديمة, فأصروا جميعاً إنها أثرية, فعدت إلى جدة وفي نفسي من المقبرة شيء, كنت أتمنى أن تكون لثمود, وفي قرارة نفسي أنها ليست كذلك, ولكن أين موتى من خلدوا تلك الجبال المنحوتة واللوحات المرسومة في أعمال جليلة لا يقوى عليها سوى أصحاب حضارة وقدرات جسدية غير عادية وربما عقلية كذلك, إن لي ما يقارب الثلاثة أعوام أتجول في هذا الجبل, صحيح أن ما قطعته منه هو القليل, والمجاهيل المتبقية لا تحصى, ولكني زرت الأماكن التي تجاور المزارع, في الواديين والشرقي والشامية وبقعة بن فيصل, وأي أمة عاشت في جبل القهر يجب أن تكون عاشت في مطمئنات الجبل حول تلك المزارع, وطوال تجوالي لم أجد قبوراً يمكن الجزم أنها ثمودية, غير قبر الصبية في الواديين تحت لوحة الصبية, وقبري القتيلين في معركة الشامية تحت لوحة الشامية, وقبري التسعة الرهط تحت صخرة المعاهدات في الشرقي, وقبراً في الشرقي في كهف ليس جواره ما يدل على أهميته ولا يمكن الجزم أنه ثمودي, ولا أدري لم دفن منفرداً في قفر؟ وهذا القبر قريب من حفرة الحبوب التي سيرد ذكرها, لعله أحد من حفروها مات أثناء العمل فدفن غير بعيد عنها, ولم يحمل إلى المقبرة, ولهذا السبب لا يزال في ذهني سؤال عن ثمود هل كانوا يحرقون موتاهم؟, لا أظن فهم أمة أرسل لهم رسول, ولم يرد في القرآن ذكر لذلك, والرمم التي ذكرت تنفي مثل هذا الظن, أم أن لهم مقبرة في مجاهيل الجبل لم أزرها بعد, الأمر المرجح عقلاً أن يكون لهم جوار كل موقع تقوم حوله حياة ومساكن مقبرة, حتى لا يتطلب دفن الموتى سفراً, فإذا كانت هذه المقبرة التي عثرنا عليها في الشامية ثمودية فأين المقابر في الشرقي والواديين وبقعة بن فيصل, ولقد سألت شعبان هل هم الآن يدفنون موتاهم على نفس المنوال فوق الأرض فأجاب بالنفي فترجح لديّ أن تلك المقبرة موغلة في القدم, وما هي إلاّ أيام على إقامتي في جدة حتى خطر لي خاطر, لقد قلت لنفسي لا بد من العودة إلى تلك المقبرة والتأكد من قبورها هل هي موجهة للقبلة فنحكم أن موتاها مسلمون أو هي إلى غير القبلة فنحكم أن عمرها لا يقل عن ألف وخمسمائة سنة, لذلك عدت أدراجي وقد اصطحبت معي بوصلة وآلة لتحديد القبلة, وقبل وصولنا إلى المقبرة بمسافة قصيرة رأيت مقبرة تشبهها ظننتها هي, فترجلت لأعاين قبورها, ولكن شعبان هتف بي إنها ليست التي نريد, ولم أجبه بل أخذت ومعي يحيى الشمراني نعاين القبور ونحدد القبلة, وسألنا شعبان إن كانت القبلة كما تشير الآلة فأجاب بنعم فهالنا أن نجد جميع القبور غير موجهة للقبلة, ومعظمها في اتجاه واحد, فحكمت دون تردد أن عمرها أكثر من ألف وخمسمائة سنة, وقلت إن لم تكن ثمودية فهي أثرية وذات أهمية تاريخية, والله وحده يعلم كم كانت فرحتي وفرحة الإخوة المرافقين بهذا الكشف, وقلت في سري إن هذه الأمة وإن تكن غير إسلامية فإن لها اعتقاداً ما في دفن الموتى, فجميع القبور تمتد طولياُ في اتجاه واحد, ثم توجهنا إلى المقبرة الأخرى لأجبر خاطر شعبان, وإلاّ فقد اكتفى عقلي بهذه المقبرة, وفي نفس اتجاه قبور المقبرة التي عاينا وجدت قبور المقبرة الثانية, تنحرف عن القبلة في نفس الإتجاه, وسرت خطوات مع صف القبور فرأيت عدداً يسيراً من القبور تنحرف عن عامة المقبرة في اتجاه آخر, ولا تتجه إلى القبلة, وقبراً واحداً منفرداً يتجه إلى القبلة, وذهبت أفلسف الأمر فقدرت أن أصحاب المقبرتين أهل ملتين, وداخلني بعض الشك بسبب القبر المنـفرد, ورحت أسأل شعبان فكان يصر أن المقبرة سابقة للإسلام فقبورها إلى غير القبلة, ومرتفعة عن مستوى الأرض بمتر أحياناً, وبرغم هاتين الحجتين بقي في نفسي شيء ولكنه ظن وارتياب لا يدعمه دليل, وفي الطريق وجدنا شيخاً ينيف على السبعين أشار لنا أن نحمله معنا وما أن أخذ مجلسه حتى أمطرته بالأسئلة عن المقبرة لحاجتي للمعلومة اليقينية, فأكد لي قدمها, وأن لا أحد يعرف تاريخها فسألته إن كان أدرك الناس وهم يقبرون فيها فأجاب بنعم, حين كان صغيراً في سن الصبا, فتعجبت وقلت بإنكار شديد كيف والقبور موجهة لغير القبلة؟, فضحك وقال والله ما عرفنا الإسلام إلاّ من اثنتين وخمسين سنة, ومراده ما تفقهنا في الدين إلاّ منذ كيت وكيت وأردف ولقد كنا ندفن موتانا كيفما اتفق, وكان يشير بقوله هذا إلى عام 1374هـ حين أدخلت الدولة إلى جبلهم عنوة من يعلمهم ويفقههم في الدين, وكانوا في عزلة لا يدخل موطنهم غريب وأصبحوا على ما هم عليه الآن, إن الزائر ليسر من محافظتهم على الصلوات الأميّ منهم والمتعلم, ولا أظن دولة دخلت جبل القهر قبل ذلك على مر التاريخ, إنه قلعة طبيعية وحجر حصين, لذلك لم يكن الشيخ مجانباً للصواب في قوله, ولكنه أحال فرحتي بالمقبرة إلى ترحة, كم كنت أتمنى أن يثبت أنها من العصر الجاهلي على الأقل, فعدت أسأل نفسي أين مقابر ثمود؟, فكل جبال جبل القهر تشهد أن ثمود عاشت هنا, لقد ترجح لدي أن بعض قبور المقابر الحالية القريبة من المزارع والمساكن داخل الجبل ثمودية, وأن الناس في هذا الجبل توارثوا مقابر ثمود وطريقتهم في بناء القبور الآنف بيانها حتى كان عام 1374هـ فعرفوا حفر القبور ودفن الموتى وتوجيههم إلى القبلة, ولعل الآثاريين إن قدر لهم أن يزوروا جبل القهر ويشاهدوا أعظم آثار جزيرة العرب أن يجلوا لنا علامة الاستفهام هذه, إن عدم معرفة قبائل الريث بتوجيه موتاهم إلى القبلة يؤكد أن إدعاءهم أن ناقة صالح كانت بأرضهم معلومة متوارثة تناقلتها الألسن جيلاً بعد جيل, لا عن قراءة في كتاب, وهذا يزيد يقيننا أن ثمود كانت في هذا الجبل الحجر الممتنع.

مـقـبـرة الـشـامـيـة. صورة رقم (54)


أحد قبور مقبرة الشامية يقارب طوله الثلاثة أمتار. صورة رقم (55)

قبر آخر طوله ثلاثة أمتار تقريباً. صورة رقم (56)

مجموعة من قبور مقبرة الشامية. صورة رقم (57)





يتبع