ولم تؤثر حملة ما يسمى الحرب العالمية على الإرهاب -في تقدير د. السميط- على العمل الخيري في أفريقيا مقارنة بالضغوط التي مورست على الهيئات الخيرية العاملة في جنوب شرق آسيا خاصة في أفغانستان وباكستان والجمهوريات الإسلامية المستقلة، يقول: "الضغوط التي تمارس ضد العمل الخيري ومنظماته هي جزء من مخطط كبير ضد الإسلام والمسلمين، ويجب أن نعمل ولا نتأثر بهذه الحملات، المهم أن نعمل عملا مدروسا ومؤسسيا، له كوادره ومتخصصوه، وقد دعوت جامعة الكويت والجامعات الخليجية إلى تدريس مادة إدارة العمل الخيري إلى أبنائنا لسد العجز في الكوادر المتخصصة التي تحتاجها الجمعيات الخيرية، خاصة أنها في حاجة ماسة إلى أفراد مدربين ومعدين إعدادا جيدا، يمكنهم الولوج في العمل الإداري على أسسه العلمية الصحيحة".
زكاة أثرياء المسلمين
ويرى د. السميط أن زكاة أموال أثرياء العرب تكفي لسد حاجة 250 مليون مسلم؛ إذ يبلغ حجم الأموال المستثمرة داخل وخارج البلاد العربية 2275 مليار دولار أمريكي، ولو أخرج هؤلاء الأغنياء الزكاة عن أموالهم لبلغت 56.875 مليار دولار، ولو افترضنا أن عدد فقراء المسلمين في العالم كله يبلغ 250 مليون فقير لكان نصيب كل فقير منهم 227 دولارا، وهو مبلغ كاف لبدء الفقير في عمل منتج يمكن أن يعيش على دخله.
وبعد أن وضعت الحرب الأنجلو-أمريكية أوزارها ضد العراق قام السميط بمهمة خيرية لإعانة الشعب العراقي، وكانت جمعية العون المباشر قد خصصت مليوني دولار لدعم الطلاب العراقيين الفقراء وإغاثة الأسر المتعففة، وفي تلك الأثناء تعرض رئيس الجمعية إلى حادث مروري في منطقة الكوت (160 كيلومترًا غرب بغداد) بعد أن اصطدمت السيارة التي كانت تقله ومرافقيه بشاحنة، توقفت فجأة؛ وهو ما أسفر عن إصابته بكسور وجروح متفرقة عولج خلالها في أحد مستشفيات الكوت ثم نقل إلى مستشفى الرازي بالكويت لاستكمال علاجه
عندما زرتك يا دكتور
.........
بقلم: فهد بن عبد العزيز السنيدي
سعادة الدكتور العزيز / عبد الرحمن السميط سلمه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
فاسمح لي أن أسرد على كريم علمك جزءً من فصول الجمال والإبداع ومشهداً من مشاهد الحب والوفاء التي أنت فيها المعدّ والمقدم والمنتج والمخرج وذلك فضل الله عليك .. إنها قصة زيارتنا لكم في مدغشقر لتصوير برنامج ( القارة المنسية ) فبعد عزم فريق العمل السفر إلى القارة كانت المخذلات كثيرة بينما المحفزات واحدة .. المخذلات أكثر من أذكرها حتى لايتشبث بها قارئ فأكون السبب في ثني عزمه عن المسير .. أما المحفزات فهي أن الدكتور / عبد الرحمن السميط الذي هو في سن آبائنا ترك حياة الراحة والدعة وأقام في بيت متواضع في قرية مناكارا بجوار قبائل ( الأنتيمور ) وقطع على نفسه العهد أن يمضي بقية عمره في الدعوة إلى الله هناك .. ألا يكفي هذا أن يحفزنا ؟ ألا يكون هذا درساً من دروس احتقار النفس أمام أمثال الدكتور حفظه الله ؟ بلى والله ،فلقد عزمنا على السفر لتحقيق أمور عديدة سائلين الله تعالى التوفيق والإخلاص .
حطت بنا ركاب السفر في العاصمة ( أنتنانا ديقو ) ليقول لنا الأخوة هناك : إن خط سيركم سيكون عبر طريق وعر تقطعونه في أكثر من ثلاث عشرة ساعة ، أو عبر طائرة صغيرة لا تقلع إلا أحياناً وبعدد لا يتجاوز العشرة أشخاص وهي أشبه بالباص ( المكسر ) .. وهنا سألنا الإخوة : كيف يتنقل الدكتور ؟ فقالوا : الدكتور كثيرا ما يتنقل براً ، وقد سافر بالقطار في أكثر من أربعين ساعة بفتات الخبز ! فقلنا لأنفسنا هذا الاختبار الأول رسبنا فيه جزما حيث طلبنا السفر بالطائرة ؟! وعندما وصلنا إلى ( مناكارا ) استقبلنا الدكتور / عبد الرحمن بوجه مشرق ونفس راضية تحمل بين جنباتها همّاً عظيماً هو هذا الدين .. ليقول لنا : متى تريدون أن نبدأ العمل ونزور القبائل لتروا بأنفسكم أن الإسلام كان هنا ولكنه اندرس ؟ لقد تعلمت في أول ساعة معكم يا دكتور أن العمل المتواصل والبذل الدائم هو طريق النجاح .. إن الأمثلة المحفوظة والأشعار المنثورة ليست في قاموسي بشيء لأنها كانت مادة جافة أرددها دائماً عن العزم والعمل والجهد والمثابرة .. لكنها أفلست مني أو أنا أفلست منها عند أول درس عملي من الدكتور ؟
أعلم يا دكتور إني سأوقف قلمي قليلاً لأن الخطوط الحمراء التي لن ترض بخروجها .. والأعمال الكثيرة التي لا تقبل أن يعلم بها أحد لن أبوح بها .. ولكني كتبتها بقلم الذاكرة وحبر الزمن في مجلدات الوفاء .. إن لم استطع قولها للناس تحقيقاً للأمر النبوي الكريم بذم المديح وحفظ حق الإخوان في عمل السر فإني سأقولها لهم بدموع تنهمر بعد عودتي .. وعبارات أتنهد بها عندما يسألني أحد عن هذه الجهود ؟!!
ماذا عساي أن أكتب لكم عن رحلة استمرت قرابة الشهر في إفريقيا لتصوير البرنامج كان نصيب الأسد فيها للأسد السميط .. لقد تعلمنا منك أن الحياة شباب وإن كنت كبير السن .. وهذه الحياة واحة فريدة في صحراء العمر .. ولست أعني الشباب الغض الناعم ، الذي ترق عنده الحياة ، فتسحره بالنظرات المغرية . وتجمع له لذائذ الدنيا ، في لحظة مسكرة ، أو شبهة عارضة ، الشباب الذي يعيش للهوى وأحلام اليقظة ، فيبدأ تاريخ حياته بالحاء فلا يلبث أن ينتهي بالباء . ديدن حياته يقوم على هذين الحرفين في غير مكانها الصحيح، بالطبع لست أعني هذا الشباب ، وإنما أعني شبابك يا دكتور مع بياض شعرك وصعوبة حركتك .. وتثاقل أقدامك إنه الشباب الحي العامل ، الذي وضع له غاية في العيش أبعد من مجرد العيش . فهو في جهاد مع وقته ونفسه والهوى والشيطان .
وإذا كانت النفوس كباراً *** تعبت في مرادها الأجسام
***
تعلمت يا دكتور أن المال الصالح في يد العبد الصالح سلاح مضاء وعدة عتيدة وقوة مكينة لا يمكن معها التقاعس أو الكسل .. فهمت منك أن الأثرياء في الأمة كثيرون ولكن النافع منهم قليل .. أولئك الذين ضعف عندهم الخلق والدين ، استخفوا بقواعد الإيمان ومبادئ الإسلام ، يأكلون كما تأكل الأنعام دون أن يؤدوا واجباً لدينهم أو مجتمعهم .. بل إنهم أصبحوا حرباً على أمتهم .. يسخرون أموالهم في العفن والفن والفجور... يؤصلون للرذيلة .. ويقيمون لها المؤسسات والأندية .. لا يتوانى الواحد منهم أن يقدم المال لكسر فضيلة .. أو قتل خلق فاضل .. بينما يستثقل أحدهم أن يبذل لعمل الخير .. ( وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين ) لا يليق بالرجل القادر ، أن يرضى لنفسه ، أن يكون حملاً على كاهل المجتمع ، ثقيلاً مرذولاً ، وأن يقعد فارغاً من غير شغل ، أو أن يشتغل بما لا يعنيه ، إن هذا لمن سفه الرأي ، وسذاجة العقل، والجهل بآداب الإسلام .
تعلمت يا دكتور :أن يكون هم الدعوة إلى الله شغلي الشاغل حتى في اللقمة التي آكلها .. أتذكر تلك الزيارات التي نقطع فيها الساعات بين طرق وعرة وغابات مظلمة مخيفة وأنهار موحشة في قوارب صغيرة ومستنقعات منتنة .. فإذا وصلنا إلى القرية واجتمع أهلها قال لهم الدكتور : ربي الله الواحد الأحد الذي خلقني ورزقني وهو الذي يميتني ويحييني .. كلمات يسيرة يدخل بها أعداد منهم إلى الإسلام ..! أتذكر تلك الملابس التي تحملها معك . لماذا يا دكتور ؟ إنها هدية لملوك القرى تأليفاً لقلوبهم إلى الإسلام ! لماذا هذه الحلوى ؟ لأطفال القرى من أجل إدخال السرور على نفوسهم .
ماذا عساي أن أقول ؟ وبأي درس يمكن أن أتحدث ؟ هل يمكن أن أسطر رحلة تعلمت فيها رغم قصر مدتها بقدر ما تعلمته من سني عمري الماضية ؟ لقد نسيت معاناة السفر ومشقة الحياة وشظف العيش قهراً لنفسي لأني أرى شيخاً كبيراً مصاباً بالسكر وبه آلام في قدمه وظهره .. يكسر كل حدود الترف والتأفف أمام ميدان الدعوة إلى الله ! ألا يستحي الشباب مثلي وهم هناك من أن يتذمروا لعدم وجود الماء الصالح للشرب والاستحمام ؟ أو عدم الحصول على المناديل المعطرة ؟ أو النوم أحياناً دون عشاء ؟ إيه أيتها النفس .. كم أنت مترفة .. ومنعمة .. وبعيدة عن ميدان العمل الحقيقي ..
لقد تعلمت من لسع البعوض في تلك القرى دروساً في الصبر .. وتعلمت من شح الماء دروساً في اليقين و تعلمت من انقطاع الكهرباء أياماً دروساً في الطمأنينة ..
يا دكتور لقد منحتني شهادة عليا في هذه الرحلة لم تستطع جامعات الدنيا أن تمنحني إياها .. لقد حصلت على الدكتوراه في احتقار النفس أمام العظماء .. وتجاوزت الماجستير في العمل الحقيقي الذي كنا نعتقد أنفسنا من رواده وبكالوريوس بامتياز في معرفة رجال الأمة الحقيقيين الذين يستحقون شهادات التقدير وجوائز الشكر.. لكنهم مع ذلك يقولون كما كنت تقول لي: يا أخي نحن لا ننتظر شهادات من أحد.. نحن عملنا في الميدان .. وننتظر من الله فقط أن يتقبل منا ؟
ما زلت يا دكتور أتذكر تلك القرية التي أعلن أهلها إسلامهم وكيف كانت فرحتك العارمة .. كأننا خرجنا بأموال الدنيا . كنا نحن ننتظر مشاهد التصوير ونحسب إنجازنا بعدد ساعات التصوير كانت هذه ساحة سعينا .. وميدان بصرنا.. بينما كنت تسبح هناك .. وتنظر هناك ..
وتتأمل هناك .. الآخرة.. !
فلله درك أيها العظيم .
كنت أتعجب منك وأنت تحاسب من يعمل معك بكل دقة و تقف بنفسك حتى على طعام الأيتام .. وأقول في نفسي هو جهد زائد ينبغي أن يدفعه لغيره .. لكني فهمت متأخراً عندما قلت لي : أموال الناس التي دفعوها لعمل الخير لا يمكن أن أفرط في ريال واحد منها.
أتدري يا دكتور أن هذا البرنامج كتب سيناريو حلقاته وصمم فكرته وأخرج أطرافه عملكم المتوقد وسعيكم الدائب .. أتدري أني قرأت كل ما كتبته في مجلتكم ( الكوثر ) قبل أن أصل إليك لأجد ما كتبته عن جهود العمل ( غيض من فيض ) وعندها تذكرت قول الحبيب صلى الله عليه وسلم :
( ليس راء كمن سمع ) وأكدت لنفسي ( من شاهد الحقائق ضمن الوثائق ) كنت أتنقل معك بصحبة فريق البرنامج بين القرى و القبائل لنجد منكم شخصاً ملماً بحياتهم وعاداتهم وتقاليدهم.. وهذا درس من دروس ، فالداعية الحق هو الذي يعرف طبيعة من يدعوهم ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل لما أرسله لليمن ( إنك تأتي قوماً أهل كتاب ) إنها معلومة مهمة يراد من ورائها رسم منهج للدعوة .. فليس كل داعية يصلح للدعوة في كل مكان .. بل لابد من مواصفات معينة يسبقها العلم التام بطبيعة المدعوين وأحوالهم .
دكتور : أسعد الله مساءك بكل خير أينما كنت .. تذكرت ذلك المساء الحالم.. عندما أرخى علينا الليل سدوله بعد أن صلينا المغرب وانكمش المنعمون مثلنا من آثار البرد .. فوقفت على تلك الحلقة المستديرة التي تجمع فيها أبناؤكم الأيتام يقرأون القرآن .. وأنت تنتقل من حلقة إلى أخرى .. تطمئن على حفظهم للقرآن الكريم .. وتبتسم في وجوهم كل لحظة .. تذكرت خروجك بعد العشاء لتطمئن عليهم هل ناموا ؟ هل استقروا جميعاً في مهاجعهم ؟
تذكرت سائقك الخاص وأنت تعامله بلطف ومحبة حتى أعلن إسلامه .. تذكرت أولئك الدعاة وهم يجيبون على سؤالي في كل لقاء .. من أي مدرسة تخرجتم في الدعوة ؟ فقالوا : من مدرسة
عبد الرحمن السميط الدعوية !
تذكرت تلك الليلة الشاتية عندما عمدنا إلى جذوع الشجر لنوقد النار للتدفئة فجلست وقد أحطنا بك من كل ناحية .. تحكي لنا حكايات رائعة .. ليست عن حب وغزل .. ولا عن شعر وزجل .. بل عن دعوة وإغاثة .. عن إسلام وراحة .. عن أقوام كانوا في ضلال فأنقذهم الله بالإسلام ( أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها ) (الأنعام : 142) أيها الفاضل / اسمح لي أن أزجي سرا ً .. هذه الصور المذكورة من الجهد المتواصل ليست حكراً عليك فقط .. بل هي ديدن أسرتكم الكريمة من زوجة وأبناء حفظكم الله بحفظه .
لا أريد أن أحرق البرنامج على مشاهدينا الكرام .. فهو برنامج أسبوعي في قناة المجد بعنوان
( القارة المنسية ) فيه الغرائب والعجائب والأفراح والأتراح .. والفقر و الغنى ..
فيه صور ة إسلام منسية .. وكتاب مقدس عند أهله اسمه ( السواربي ) ومقابر لا يتم الدخول إليها إلا بدعاء يتضمن سورة الفاتحة .. برنامج أظن أن غرائبه وعجائبه ستحمله إلى المشاهدين فلن أتحدث عنه مكتوباً .
شكر الله لك أيها الدكتور الفاضل .. ورفع قدرك .. وجزاك عنا خير الجزاء وكثر الله في الأمة من أمثالك إنه جواد كريم .. وإلى اللقاء على طريق الخير والمحبة ...
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
حوار مجلة البيان
مع د/ عبدالرحمن السـميط
حول العمل الإسلامي في إفريقيا
مجلة البيان العدد 80 ربيع الآخر1415هـ
..................
• العمل الإسلامي الخيري بأنواعه الـمـختلـفـة (الإغاثي التعليمي الدعوي... ونحوها) عمل جديد نسبياً ، ولكنه خطى خطوات متسارعة في السنوات الأخيرة.. فكيف تقومونه ، مع إيجابيات العمل وسلبياته؟
• خلال الخمس عشرة سنة الماضية شهدت الـسـاحــة الإســلامـيــة نمواً كبيراً جداً للعمل الخيري ، ورغم التوفيق الذي حالف الغالبية العظمى من هذه الـمـنـظـمات بفضل من الله سبحانه وتعالى ، وذلك من خلال ما حققته من نجاح طيب في كثير من الميادين ، إلا أنني أود أن أركز هنا على نماذج من السلبيات التي حدثت والتي أتمنى أن نقوم نحن العاملين في المؤسسات الخيرية بمراجعة أنفسنا وتصحيح هذه الأوضاع الخاطئة ، ومنها على سبيل المثال:
أولا: بدأت تبرز عـنـد البعض روح الانتماء للمنظمة التي يتبعها حتى طـغـت عـلـى روح الانـتـمـاء للإســـلام ، مما أثر على العمل الإسلامي في المناطق التي يعملون بها ، وأحياناً يحدث هذا بحسن نية ونادراً ما يحدث بصورة أخرى. ودعني أضرب لك مثالاً:
• قمت بزيارة لمنطقة نائية في شمال كينيا ، واكتشفت وجود قبائل أصلها إسلامي ، ولكن لا يوجد بينهم دعوة إسلامية منظمة ، وكان يوجد شخص من المدرسين الحكوميين يقوم بتدريس مادة الدين الإســلامي في بعض المدارس الثانوية ، و كان لديه استعداد طيب ، وبدأ فعلاً في الدعوة في وســط هــذه القبائل ، وكنا بحاجة له للتفرغ للدعوة الإسلامية ، ولكن ظننا أننا لو سحبناه من الـمـــدارس ستصبح بدون مدرسين مؤهلين ، وبخاصة وأن التعيينات الآن في تلك المدارس صعبة جــــداً ، مما يعني بقاء الطلبة في المرحلة الثانوية بدون توجيه إسلامي ، فتركناه على وظيفته على أن يعمل في أيام العطل معنا في الدعوة ، وفوجئنا بإحدى المنظمات تعرض عليه راتـبــــاً خيالياً وتنقله إلى مكان آخر ، بينما كان بالإمكان تعيين أي شخص بديل له في ذلك المكان ، ومن السهل وجود أشخاص بديلين عنه هناك ، ونجم عن ذلك أن أصبحت المدارس بدون دعوة ، وكذلك القرى التي كان يزورها ويدعو الناس فيها فقدته أيضاً ، وأعتقد أن هذا التصرف ناتج من أن الأخوة لم يروا إلا من زاوية ضيقة (من وجهة نظر مصلحة المؤسسة التي يعملون بها فقط) ، ولهذا نجد تنقلات كثيرة بين المؤسسات الإسلامية أعتقد أن أشد المنظمات ضرراً على العمل الإسلامي هم أولئك الهواة الذين يأتون وفي جيوبهم كثير من المال ، ويعرضون الرواتب الخيالية في الأزمات ، ثم ينسحبون بمجرد أن تنتهي الأزمة ، ويبقى هؤلاء الموظفون مشردين بدون وظيفة ، وقد حصل هذا في المجاعة التي أصابت الصومال وشمال كينيا ، حيث يوجد عدد غير قليل ممن كانوا موظفين في الحكومة وفي غيرها ، وتم إغراؤهم برواتب خيالية فاستقالوا من وظائفهم للعمل في بعض المؤسسات ، واستغنت عنهم تلك المؤسسات بعد انتهاء المجاعة ، فأصبحوا يمدون أيديهم إلى الناس طلباً للإحسان بعد أن كانت لديهم وظيفة يستطيعون أن يخدموا الإسلام من خلالها.
ثانياً: ومن السلبيات تدافع المنظمات للعمل في نفس المكان ، وكم كنت أتمنى لو قمنا بالابتعاد عن أي مكان توجد فيه إحدى المنظمات الإسلامية والانتقال إلى أماكن أخرى ، فالساحة تستوعب الجميع ، وما حدث في مجاعة الصومال مثال على ذلك حيث تركز عمل أغلب المنظمات الإسلامية في منطقة مقديشو وما حولها ، وها نحن نرى تدافعاً للمنظمات الإسلامية في بعض المناطق مع إهمال كامل لمناطق أخرى ، فموزمبيق مثلاً يوجد بها ست منظمات رغم محدودية العمل ورغم أن أغلب المنظمات لم تقدم شيئاً ملموساً حتى الآن لإخوانهم المسلمين ، ورغم المشاكل الإدارية التي تكتنف عمل بعض المؤسسات الإسلامية ، بينما دولة مثل غينيا الاستوائية التي فيها أعداد كبيرة من المسلمين ، ومثل نيجيريا والكميرون والكنغو لا يوجد فيها حضور حقيقي لمنظمات ميدانية تقدم عملاً خيرياً في هذه المناطق إلا ما ندر.
ثالثاً: إصرار بعض المنظمات رغم العجز الإداري الموجود لديها على التوسع بدون حدود ، مما أوجد خلخلة في أعمالهم ، فنجد بعض العاملين يبقون أشهراً طويلة بدون رواتب وبدون تعليمات ، دعك من الزيارات الميدانية التي يفترض أن يقوم بها العاملون في المكاتب الرئيسة للاطلاع على مشاكل مكاتبهم في مختلف المناطق ، وهذا أوجد إحباطاً في نفوس إخواننا من الدعاة في هذه المناطق مما عاد بسلبيات كثيرة على العمل الخيري.
رابعاً: عدم قيام بعض المنظمات الإسلامية بتدقيق المحاسبة بشكل يضمن وصول المساعدة إلى المحتاج فعلاً ، كما قرر المتبرع ، مما أوجد فئة من الناس ممن قلت تقواهم فأصبحوا يجتهدون في هذه الأموال ، وأصبحت الحدود غير واضحة في أعينهم بين المصالح الشخصية ومصالح الإسلام وهناك سلبيات كثيرة تحتاج إلى وقت أطول ومجال أرحب.
• العمل الخيري من الأعمال الشاقة المجهدة.. فما هي الصعوبات الرئيسة التي ترون أنها تواجه العمل الخيري ، وكيف يمكن تجاوزها أو التقليل من آثارها؟
• كثير من العاملين في العمل الخيري يدّعون أن المشكلة الرئيسة هي المال وأنا أعتقد أن غالبية المؤسسات الإسلامية لديها مشكلة مالية ، ولكن المشكلة ليست في قلة الأموال ولكن في تخمة الأموال التي لا تستطيع أن تضعها في موضعها الصحيح ، والمشكلة الرئيسة في نظري هي إدارة العمل الخيري حيث لا يوجد أشخاص مؤهلين للعمل في المؤسسات الخيرية الإسلامية نتيجة حداثة عهدها ، وهناك أيضاً انعدام الرقابة الميدانية عند بعض المؤسسات التي مدت جذورها بشكل كبير في وسط المتبرعين ونست الزيارات الميدانية وأهميتها في الرقابة الإدارية والمالية ، كما أن هناك صعوبة يجب أن لا نغفلها ، وهي عدم وجود الغطاء السياسي للعمل الخيري الإسلامي ، فالدول الإسلامية بصورة عامة دول ضعيفة أو دول لا تود الدخول في إشكالات سياسية لحماية العمل الخيري الذي ينبع من دولها ، بينما نجد أنه ما أن تمس مؤسسة أمريكية أو ألمانية أو إنجليزية إلا وتقوم قيامة حكومات تلك الدول وتتدخل لدى أعلى المؤسسات الحكومية في إفريقيا وجنوب شرق آسيا ، لصالح العمل الخيري الذي تقوم به المؤسسات الغربية ، بينما نحن المسلمين كالأيتام على موائد اللئام وأضرب لك مثالاً بلجنة مسلمي إفريقيا ، وهي ليست فريدة في ذلك حيث قتل العديد من دعاتنا في عدد من الدول مثل الصومال وليبيريا وسيراليون وموزمبيق وغيرها ، وإطلاق النار على مؤسساتنا شيء لم يعد يثيرنا بسبب كثرة ما يحدث ولا نستطيع أن نلجأ إلى أي جهة لتقوم بحمايتنا ، بل إنه حتى في الصومال برزت النعرات الوطنية والإقليمية بشكل مزعج ، فأنت عندما تطلب قوات لحماية الإغاثة التي تنقلها من مكان إلى آخر ، يقول لك المسؤول هناك: أنك لست تابعاً لبلدي ولا أستطيع أن أحميك ، بينما هو يقوم بحماية الإغاثة التابعة لمؤسسات نصرانية باسم الأمم المتحدة ، وكنت أتمنى أن نحس بالوحدة الإسلامية أولاً ، وبالوحدة الخليجية ثانيا في حماية المؤسسات الخيرية الخليجية بصورة خاصة ، والمؤسسات الإسلامية الأخرى بصورة عامة ، بغض النظر عن هذه الحدود المصطنعة التي وجدت بين دولنا.
• التخطيط والتدريب والمتابعة.. من الدعامات الرئيسة لنجاح العمل الخيري ، فما هي مرئياتكم حيال هذا الموضوع؟
• أعتقد أن العمل الإسلامي الخيري إذا أريد له النجاح فلابد له من وضع خطة مستقبلية مع تقييم لما نفذ من هذه الخطة على مراحل ، ويكون هذا التقييم بإجراء محاسبة إدارية ومالية دقيقة في المكاتب الرئيسة ، بالإضافة إلى زيارات ميدانية دورية لأمكنة العمل ، حيث لاحظنا أن بعض المؤسسات الخيرية تعتمد على الإدارة من بعيد دون أن تعلم ماذا يحدث في الميدان حقيقة ، بل إنها تعتمد اعتماداً كلياً في اتخاذ بعض القرارات المهمة على التقارير التي تصلها. أما مشكلة التدريب ، فمع الأسف الشديد قليل من المؤسسات التي تقوم بدورات تدريبية ولكنها لا تكون على المستوى المطلوب ، وينعكس ذلك على مستوي العمل مما يجعل بعض العاملين يتحدثون عن أمور يجهلونها.
•للمنظمات التنصيرية خبرات طويلة وإمكانات هائلة وجهود جبارة في العالم الإسلامي.. فمن خلال خبرتكم في إفريقيا هل لكم أن تذكروا لنا بعض الإحصائيات لحجم هذه الأنشطة ، وما هو دور المؤسسات الإسلامية في مواجهة المد التنصيري؟
• الإحصائيات موجودة في المراجع الأجنبية وبخاصة المراجع التنصيرية وأضرب مثالاً بكنيسة »المرمون« التي زاد عدد أتباعها أكثر من 16 % خلال السنوات الأربع الماضية في إفريقيا ، كما أن الكنيسة الكاثوليكية تبذل عشرات الملايين من الدولارات على العمل التنصيري في إفريقيا ، حيث ازداد عدد الكاثوليك وهم فئة من فئات النصارى ما بين عام 1980 إلى عام 1994 م من 52 مليون إلى 92 مليون ، والمعروف أن البابا الحالي زار إفريقيا لأول مرة في عام 1980 م ثم زارها بعد ذلك عشر زيارات ويوجد حالياً 55 ألف طالب يدرسون الرهبنة الكاثوليكية في إفريقيا ويوجد حالياً 20700 قسيس و 42 ألف راهبة ، يساعدهم 264 ألف مساعد ديني متفرغ للقسس في أعمالهم الدينية اليومية ، فإذا كان هذا في إفريقيا وحدها ، فما بالك في المناطق الأخرى ، ولوحظ كذلك أن رجال الكنيسة بدأوا الدخول في السياسة بدعم من الفاتيكان ، رغم أن الفاتيكان ينفي ذلك تماماً ، ولكن من الواضح جداً أنه لا يمكن أن يقوموا بما قاموا به من تدخل سياسي بدون هذا الدعم الخفي من الفاتيكان ، وكمثال على ذلك ، هناك خمس دول يرأس المجالس الوطنية أو البرلمانات بها قسس كاثوليك برتبة أسقف في غرب إفريقيا ، وقد كانت البداية في »بنين« حينما أصبح الأسقف »إيسادور ديسوزا« رئيساً للبرلمان في عام 1990 م ، ثم حدث نفس الشيء في الكنغو والغابون والتوغو وزائير ، ويرأس الحركة الانفصالية في جنوب السنغال قسيس كاثوليكي ، كما أن الكنيسة الكاثوليكية متورطة حتى آذانها في الحركة الانفصالية في جنوب السودان ويقيم »جون قرنق« أثناء زيارته إلى نيروبي نصف المدة في كنيسة كاثوليكية في ضواحي نيروبي ، والنصف الثاني في كنيسة بروتستنتية ، وبكل وضوح يقوم بهذا العمل بينما تدخلت الدول الغربية لتحريم إقامة أي حزب على أساس ديني في خمس دول ذات أغلبية إسلامية ، وهي موريتانيا ، والنيجر ، وتشاد ، والسنغال ، وغينيا كوناكري ، حتى لا يكون للإسلام صوت في السياسة ، وحسب إحصائيات المجلة الدولية لأبحاث التبشير وهي مجلة علمية أمريكية فإن ما تم جمعه خلال عام واحد لصالح الكنيسة في شمال أمريكا وغرب أوروبا بلغ 181 مليار دولار ، ويوجد لديهم 2050 محطة إذاعة وتلفزيون ، ويملكون في دولة مثل أندونيسيا 64 مطار ، ويمكن من هذا أن نقدر عدد الطائرات التي يملكونها.
• صلة القارة الإفريقية بالإسلام صلة قديمة جداً ، وقد كان للغة العربية حضور مبكر في القارة ، ولكن استطاع الاستعمار استبدال اللغة العربية وحروفها باللغات الغربية والأحرف اللاتينية.. فهل لكم أن تذكروا لنا بعض تلك الجهود في ذلك؟
• الإسلام لم ينزل على إفريقيا (ببراشوت: مظلة) وإنما له جذور عميقة ، فمنذ هجرة الحبشة الأولى االتي دخل بها الإسلام إلى إفريقيا قبل أن يدخل إلى المدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام وقد اكتشف قبل مدة مسجد في جزيرة »باتي« في شرق كينيا عمره 1350 سنة ، واكتشف مسجد له نفس العمر في شمال زنجبار وفي جزيرة »بمبا«. وفي زيارتي الأخيرة إلى »مدغشقر« وجدت كثيراً من الآثار الإسلامية التي يعود تاريخها لأكثر من ألف سنة ، ويذكر أحد الباحثين الغربيين أنه وجد قبراً في زيمبابوي كتب عليه:
(بسم الله الرحمن الرحيم
هذا قبر سلام صالح الذي انتقل من الدار الفانية إلى الدار الباقية عام 95 من هجرة النبي العربي )
وهناك قرائن تثبت أن العرب كانوا قد سكنوا جنوب إفريقيا قبل الرجل الأبيض ، بل قبل الرجل الأسود ، وأقصد جمهورية جنوب إ فريقيا التي كانت عنصرية ، وإلى عهد قريب جداً كان الحرف العربي هو الحرف الذي كان يستخدم في الكتابة في إفريقيا بدون منافس ، حتى جاء الاستعمار والتنصير الغربي في منتصف القرن الماضي ، وأخذ يحارب الحرف العربي لأنه ينتمي إلى لغة القرآن ، واستطاع أن يغير كثيراً من اللغات ، من أواخر اللغات التي غيرت من الحرف العربي إلى الحرف اللاتيني لغة »الهاوسا« في شمال نيجيريا ، واللغة الصومالية وغيرها ، وكانت اللغة العربية لغة رسمية في كينيا إلى عام 1964 م ثم ألغيت ، ومع الأسف الشديد فإن العرب لا يقدمون شيئاً للدفاع عن لغتهم ، حينما قام أحد الوزراء ذوي التوجه الإسلامي في السنغال بإلغاء اللغة الألمانية في بعض المعاهد نظراً لعدم الحاجة لها ، تدخلت ألمانيا وقطعت جميع المساعدات حتى اضطر أصحاب القرار هناك لإقالة هذا الوزير ، وفي »تشاد« تم إقرار اللغة العربية لغة رسمية ، ولكن رغم هذا لم تتقدم أي دولة عربية بإرسال مدرس واحد للغة العربية في المدارس التشادية ، ولذلك بقيت اللغة العربية لغة رسمية حبراً على ورق ، وحتى الإذاعة العربية فكانت إلى عهد قريب تبث لمدة ربع ساعة فقط ، بينما الإذاعة باللغة الفرنسية تبث لعدة ساعات نظراً لعجز الإذاعة العربية عن توفير برامج ومعدات تحتاج إليها ، وقد صدر منذ شهر قرار من تشاد بأن تكون جميع اللافتات في الدوائر الرسمية باللغة الفرنسية واللغة العربية ، ورغم هذا لم تجد أي تشجيع من الدول العربية لذلك.
•كيف بدأت صلتكم الشخصية بإفريقيا ، وما هي العقبات الأولى التي واجهتكم في العمل ، وما أبرز نشاطات لجنة مسلمي إفريقيا؟
• أذكر منذ كنت أعمل في كندا في السبعينات أنني ألقيت محاضرة على مجموعة من الطلبة المسلمين في أمريكا عن جهود التنصير، وتحـمــس الأخـــــوة وطلبوا مني أن نفعل شيئاً، فاقترحت في محاضرة أخرى أن يدفع كل طالب مبلغاً يتراوح ما بين نصف دولار إلى دولار شهرياً وبصورة مستمرة ، ثم يجمع ذلك المال ونطبع بـه كتباً ونوزعها في الدول المحتاجة وبخاصة في إفريقيا ، وعندما عدت إلى الكويت بعد انتهاء دراستي وتدريبي شعرت بأن العمل الطبي لا يستوعب طاقاتي ، وحصـلــت على بعض التشجيع من بعض المسؤولين ، ونحمد الله سبحانه وتعالى أن تبرعت لـنـــا إحدى المحسنات لبناء مسـجــد ، فذهبنا إلى »ملاوي« لبناء المسجد ، وما وجــدنــــاه هناك كان يدمي القلب ، وعلى إثرهـــا كنت أحد المؤسسين للجنة مسلمي إفريقيا ، وقررنا منذ البداية أن نعمل بشكل علمي بحت ، وأن لا ننظر في الحالات الـفــردية ، وأن ننظر إلى المجتمع الإسلامي ككل ونحاول أن نـنـمـيه ، فنحن لا نـسـاعـــد شـخـصـاً بذاته لأنه محتاج للمال أو لغيره ، ولكن نحاول أن نـبـنــي المؤسسات التعليمية والصحية والاجتماعية والإغاثية لهذه المجتمعات ، وأذكر أنه في أول ثلاثة اجتماعات كنا بأمس الحاجة إلى 500 دولار ولم نستطع أن نجـمـعـهـا ، ولكن بعد ذلك نحمد الله سبحانه وتعالى على أننا قد تجاوزنا الامتحان في هذا الجانب فـي الأيــام الأولـى مـــن بدايـــة عمـلـنـا حتى أصبحت الأن لجنة مسلمي إفريقيا أكبر منظمة عالمية متخصصة في العمل الإسلامي فـي إفـريقـيا حيث يغطي عملها أربعين دولة في إفريقيا ولها مكاتب متعددة هناك ولدينا 3288 داعـيــة مـتفــرغاً وهو عدد يفوق ما لدى جميع الدول العربية المشتركة ، ولدينا أكثر من نصف مليون طـالـب يدرسـون فـي 840 مدرسة تديرها لجنة مسلمي افريقيا عبر مكاتبها الميدانية ، وحفرنا 760 بئراً ، ولـديـنـــا أكثر من 200 طـالــب يدرسون الدراسات العليا وبخاصة في مجال الطب والهندسة والعلوم فـي عـــــدة جامـعـــات في الدول العربية والأجنبية ، كما قمنا بترجمة وطباعة وتوزيع أكثر من 5.6 مليون كتيب إسلامي بـ 18 لغة وبالطبع لدينا إذاعة للقرآن الكريم وهي الإذاعة الإسلامية الوحيدة التي تمتلكها منظمة إسلامية ، وتغطي 16 دولة إفريقية في غرب إفريقيا ومقرها »سيراليون« وتبث بعشر لغات ، وقد أسلمت عدة قرى ومناطق بسبب سماعها للإسلام حيث لم تكن قد وصلتها الدعوة الإسلامية من قبل ، ومع الأسف الشديد فإن هذه الإذاعة تعاني من مشاكل مالية بعد أن استمرت عشر سنوات في البث بدون انقطاع.
من أوراق الشيخ حفظه الله
............
بسم الله الرحمن الرحيمالحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الخلق سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
أخي الفاضل/ أختي الفاضلة
سلام الله عليكم ورحمة الله وبركاته
نتحدث معكم اليوم حول ما يمر بأفريقيا من مجاعة ولسوء حظي أن كتب لي الله سبحانه وتعالى أن أشاهد هذه المجاعة التي تحدث حالياً في أفريقيا ضمن سلسلة من المجاعات التي عشتها خلال العشرين السنة الماضية، وهذه المجاعة أصابت منطقتين في أفريقيا:
المنطقة الأولى هي منطقة القرن الأفريقي وأقصد فيها أثيوبيا وأريتريا وجزء من جيبوتي
والمنطقة الثانية في الجنوب الأفريقي حيث موزمبيق وجمهورية مالاوي وزامبيا وزمبابوي وإلى حد ما في أنقولا..
سبب المجاعة هو أما عدم نزول الأمطار وموت الأعشاب والحشيش التي تعيش عليها الحيوانات وموت النباتات
وأما أن موسم الأمطار فشل، وأقصد بفشل موسم الأمطار هو إما أنه ينزل بشكل مبكر جداً أو بشكل متأخر أو أنه كمية الأمطار تنزل ويقف مدة طويلة فتموت البذور التي بدأت في النمو ثم تنزل الأمطار بعد ذلك فلا تستفيد منها الأرض
وعندما تموت الأعشاب والمراعي فإن الحيوانات تتأثر وتموت وعندما تبدأ الحيوانات في الموت فإن الناس لا يجدون الحليب الذي يشربونه ولا يجدون اللحم الذي يأكلونه لأن الحيوانات غير موجودة
ورأينا قصص كثيرة جداً من الناس الذي فقدوا أغلب ما لديهم أو كل ما لديهم
وأذكر أن رئيس قرية من القرى زرتها في أثيوبيا فقد 40 رأساً من الإبل و60 رأساً من البقر وعدد كبير من رؤوس الماعز والغنم
وعندما زرته وجدته نحيلاً جداً وقد فقد زوجته وبعض أولاده ولم يبق عنده إلا عجل ضعيف جداً مثل الهيكل العظمي وطلب مني أن آخذه وهو مبتسم قال: تستطيع أن تأخذه لأنه سيموت خلال يومين أو ثلاثة فلا يوجد علف في البادية، وطبعاً عندهم لا يوجد علف صناعي لأن أصلاً هم لا يحصلون على أكل البشر دعك من الحيوانات!
وأذكر عندما زرت هذه القرية وجدت أشكال وألوان من الأطفال وهم هياكل عظمية تمشي على قدمين بعضهم يستطيع أن يمشي وبعضهم يحبو حبواً عمره قد يكون عشر سنوات، اثنى عشر سنة ولا يستطيع المشي على قدميه، وأغلبهم لم يأكل من ثلاث أو أربع أيام وهذا الشيء عادي جداً إلى الدرجة التي أذكرها جيداً عندما ذهبت من المرات مع زوجتي وأولادي إلى إحدى القرى ودخلنا على كوخ من الأكواخ وعرفنا بعد مدة وبعد أسئلة كثيرة أن أم الكوخ ومعها أطفالها وأقاربها لم يأكلوا منذ ثلاثة أيام أي شيء على الإطلاق، حتى الحشيش الذي يؤكل غير موجود بسبب الجفاف..
من هنا شعرنا بأن هذه العائلة بحاجة إلى المساعدة وذهبت إحدى بناتي إلى السيارة لتجلب كيلوا كيس فيه كيلوا من الدقيق أو الطحين لتعطيه إياهم وفوجئنا بأن المرأة صُدمت واستغربت أن نعطيها الطحين فقالت: لماذا هذا؟!!
فقلنا لها لأنك ما أكلتِ من ثلاث أيام أنت وأولادك
قالت نحن أغنياء، الحمد الله نحن ثلاثة أيام فقط ما أكلنا..، قالوا: ورانا جيراننا العشة التي ورانا اذهبوا إليها وهؤلاء فقراء يحتاجون مساعدة أما نحن الحمد لله بخير ونعمة الذي مجرد ثلاثة أيام ما أكلنا..
ذهبنا إلى الكوخ الآخر خلف الكوخ الذي كنا فيه فوجدنا أن المرأة هناك وأهلها لم يأكلوا منذ ثمانية أيام! .. دمعة أعيننا.. وقارنّا بين وضعهم ووضعنا نحن لو غابت عنا وجبة واحدة لقلبنا الدنيا فوق تحت! ليس إذا غابت الوجبة بل إذا كان نوع الأكل الذي يقدّم قد لا يتناسب مع أذواقنا ما نكون سعيدين ونبدأ في عمل مشاكل كثيرة.. وهذا موقف مؤلم عندما نقارن بيننا وبينهم!.
أعود مرة ثانية إلى أثيوبيا إلى تلك القرية وأذكر عندما جئت كان يوم جمعة إلى مدينة دنن، تقع في منطقة الجفاف في جنوب أثيوبيا، وكان هناك طفل ميت اسمه ( ميار) مسلم ( ميار بن محمد) وهو ثالث طفل يموت في الصباح في صباح ذلك الجمعة وطبعاً المنطقة كلها متأثرة من ثلاث سنوات من الجفاف ما نزل مطر أو ينزل في غير وقته فلا تستفيد منه الأرض ولا ينمو العشب والحشيش وماتت الحيوانات ثم بدأ الناس يموتون وقضى على نسبة كبيرة من الماشية وهاجرت الأسر إلى القرى والمدن بحثاً عن الطعام..
هاجرت والدة الطفل الذي قضى يوم الجمعة اسمها (صفية) إلى قرية أو بلدة دنان مع زوجها وخمسة من الأطفال قبل خمس أشهر من الجمعة التي رأيتهم فيها.. لم يكن عليها غير الملابس التي تلبسها هي وأطفالها، ما عندهم ملابس ما عندهم شيء يملكونه.. كانت هي أسرة متوسطة الدخل يملكون 40 بقرة و50 رأس من الغنم والماعز وتدريجياً بدأ القطيع في الاحتضار عندما بدأ الجفاف يضرب المنطقة وحاولوا يبحثون في كل مكان عن أي مكان يصلح للرعي حتى يحافظوا على ما تبقى من الحيوانات ولكنهم فشلوا في ذلك فآخر حيوان مات كان حمارهم وتركوا بدون أي مال أو وسيلة معقولة يعيشون منها.. ساروا أربع أيام على أقدامهم حتى وصلوا إلى دنن لم يأكلوا شيئا لأن أصلاً ما كان عندهم شيء والأعشاب الموجودة في الصحراء بسبب الجفاف كلها أعشاب إما سامّة لا يرضى لا الحيوان ولا الإنسان أن يأكلها.. وتقول صفية إنهم كانوا جوعى وعندما نفقت كل الحيوانات اضطروا أن يأتون إلى دنن وكانت فاطمة عمرها 12 سنة أكبر بنات صفية أول من مات قبل شهرين وتبعها محمد الذي عمره سنة واحدة منذ أسبوعين فقط وأصبح الأب مريض وعاش ميار محمد معظم الأسبوعين الأخرين فاقد الوعي مع ... وحمّى والأيام الأخيرة لم يعد قادراً على تناول حتى محلول الماء والسكر وكانت أمه تغذيه.. وعندما وصلنا توفي.. تقول صفية أنها ذهبت إلى العيادة وأخبروها بالعيادة أن ما عندهم أي أدوية والأدوية الموجودة قليلة هي للبيع وهي لا تملك حتى فلس أحمر.. الزوج حمل طفله ( عمران) 6 سنوات ووراهم لي وللآخرين الذين كانوا جايين من جمعيات خيرية حتى يشوفون بعيونهم كيف أنه هذا الطفل سيموت بعد مدة بسيطة جداً وأصبح الجانب الأيسر مشلول وقعد يصرخ من الألم بينما والدها وهو يحملها قعد يتكلم لنا ويشرح لنا كيف وضعه.. فقدت أولادها كلهم ما بقى إلا الطفل ( نور) وهي بنت عمرها 9 سنوات لا تزال معافية وطبعاً معافاة ليست بالمفاهيم تبعنا بل إنما معافاة بالنسبة لمفاهيمهم هم كانت هي عبارة عن هيكل عظمي لصق عليه جلد وتتحرك بصعوبة.. !
أمثال هذه العائلة رأينا آلاف مؤلفة من العائلات التي سارت على أقدامها أيام وليالي تبحث عن لقمة العيش
من السهل جداً أن تتكلم عن موت الأطفال ولكن والله أيها الأخوة لم تعرف ألم الموت إلاّ عندما تحمل الطفل بين يديك ويموت وأنت تحمله عند ذاك لن تنس أبداً لحظات النزعة الأخيرة
لا زلت أذكر اليوم الذي رحنا فيه إلى (....) وشفنا طفل فاقد وعيه وحملته إحدى بناتي وأحضرته لي وقالت: بابا ايش فيه؟ فوجدنا فيه حرارة إذاً على الأغلب 99% يكون بسبب الملاريا، علاج الملاريا هو دواء اسمه " كلوركوين" سعر 10 حبات بعشر فلوس كويتية أو 11 - 12هللة سعودية لكن لأن العائلة ما عندها العشر فلوس أو الأحد عشر هللة ما استطاعت تعالجه! .. حاولنا أن ننقله إلى المستشفى ولكن بالطريق لفظ أنفاسه وتوفي .. الحالات مثل هذه بالمئات وبالآلاف نتيجة معايشتنا لما يحدث هناك.. عندما كنت أقضي أشهر في مخيمات اللاجئين والنازحين في السودان وفي أثيوبيا وفي كينيا وفي غيرهم من الدول كنت كل يوم أرى هذه الحالات حتى بدون أن أروح إلى بيوتهم هم يجبونهم لنا ولكن يكون متأخر جداً تدخلنا لعلاجهم مع الأسف الشديد، وأثناء محاولتنا نقدم لهم شيء من العلاج يموتون خاصة بعد أن تصل الملاريا إلى المخ وسنوياً حتى بدون المجاعة يموت في أفريقيا مليون طفل أغلبهم من المسلمين على الأقل 60 إلى 70% منهم مسلمين!
المنطقة التي أصابتها المجاعة الآن في أثيوبيا وهي أصابت مناطق كثيرة أكثر من 60% منهم من المسلمين ولا يجدون شيء يسدون فيه رمقهم، لو أكلوا وجبة واحدة قيمة هذه الوجبة 15 فلس كويتي أو 17 هللة سعودية لأغنتهم واستطاعوا أن يعيشوا من هذه الوجبة!
الوجبة هي عبارة عن خليط من الدقيق وطحين نخلطه مع سكر وزيت وأحياناً مع حليب بودرة إذا توفر أو فول صويا نطحنه ونخلطه معاهم ، نعمل مثل الشوربة نضعها في براميل مثل براميل البناء ونضع معها ماء ونضعها على النار وبعد مدة نعطي كل واحد كوب من هذا الشوربة أوالعصيدة ويسمونها هناك ( مديدة) ويشربونها وتكفيهم هذه الوجبة أن يعيشوا وأن يستردوا صحتهم لو توفرت لهم ولكن أغلبهم لا يملكون الخمسة عشر فلس أو 17 هللة ..