عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 2007-07-29, 07:24 PM
aboanas aboanas غير متواجد حالياً
عضو ذهبــي
 
تاريخ التسجيل: Nov 2006
المشاركات: 1,683

aboanas is on a distinguished road
افتراضي

تاسعاً: لزوم الرفق، ومجانبة الغلظة والعنف:
سواء في الدعوة، أو الرد، أو النقد، أو الإصلاح، أو المحاورة؛ فإن استعمال الرفق، ولين الخطاب ومجانبة العنف _ يتألف النفوس الناشزة، ويدنيها من الرشد، ويرغبها في الإصغاء للحجة.
ويتأكد هذا الأدب في مثل هذه الأحوال العصيبة التي نحتاج فيها إلى تلك المعاني التي تنهض بالأمة، وتشد من أزر الدعوة.
ولقد كان ذلك دأب الأنبياء، قال _تعالى_ في خطاب هارون وموسى _ عليهما السلام _ "اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى " [طه: 43-44].
ولقَّن موسى _ عليه السلام _ من القول اللين أحسنَ ما يخاطب به جبار يقول لقومه: أنا ربكم الأعلى، فقال _تعالى_: "فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى " [النازعات:18-19].
قال ابن القيم – رحمه الله -: "وتأمل امتثال موسى لما أُمِر به كيف قال لفرعون: "هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى" [النازعات:18-19].
فأخرج الكلام معه مخرج السؤال والعرض، لا مَخْرجَ الأمر، وقال:"إِلَى أَنْ تَزَكَّى" ولم يقل: (إلى أن أزكيك).
فنسب الفعل إليه هو، وذكر لفظ التزكِّي دون غيره؛ لما فيه من البركة، والخير، والنماء.
ثم قال: "وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ" أكون كالدليل بين يديك الذي يسير أمامك.
وقال: "إِلَى رَبِّكَ" استدعاءً لإيمانه بربه الذي خلقه، ورزقه، ورباه بنعمه صغيراً وكبيراً (8) ولهذا فإن الكلمة التي تُلقى أو تحرر في أدب، وسعة صدر، تسيغها القلوب، وتهش لها النفوس، وترتاح لها الأسماع.
ولقد امتن ربنا _جل وعلا_ على نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - بأن جبله على الرفق ومحبة الرفق، وأن جنبه الغلظة، والفظاظة، فقال _عز وجل_: "وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ" [آل عمران:159].
ولقد كانت سيرته _عليه الصلاة والسلام_ حافلةً بهذا الخلق الكريم الذي مَنْ مَلَكَه بسط سلطانه على القلوب.
وكما كان _عليه الصلاة والسلام_ متمثلاً هذا الخلق فقد كان يأمر به، ويبين فضله.
قال "إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على غيره(9) وقال _عليه الصلاة والسلام_: "إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه" (10) ولما بعث أبا موسى الأشعري ومعاذاً إلى اليمن قال لهما: "يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا" (11)
قال الإمام أحمد –رحمه الله-: "يأمر بالرفق والخضوع، فإن أسمعوه ما يكره لا يغضب؛ فيكون يريد ينتصر لنفسه"(12) ولقد أحسن من قال:

لو سار ألفُ مَدَجَّجٍ في حاجة *** لم يَقْضِها إلا الذي يترفق(13)

وكان يقال: "من لانت كلمته وجبت محبته" (14)
وخلاصة القول أن الرفق هو الأصل، وهو الأجدى، والأنفع، وأن الشدة لا تصلح من كل أحد، ولا تليق مع كل أحد، فقد تلائم إذا صدرت من ذي قدر كبير في سن، أو علم وكانت في حدود الحكمة، واللباقة، واللياقة.
أما إذا صدرت ممن ليس له قدر في سن، أو علم، أو كانت في غير موضعها، وتوجهت إلى ذي قدر أو جاه_فإنها _أعني الشدة_ تضر أكثر مما تنفع، وتفسد أكثر من أن تصلح.

عاشراً: الإقبال على الله _ عز وجل _:
وذلك بسائر أنواع العبادات.
قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه مسلم – رضي الله عنه - العبادة في الهرج كهجرة إلي"(15)
والهرج: الفتن والقتل.
فحري بنا في مثل هذه الأيام أن نزداد إقبالاً على الله ذكراً وإنابة، وصلاة، ونفقة، وبراً بالوالدين، وصلة للأرحام، وإحساناً إلى الجيران، وحرصاً على تربية الأولاد، ونحو ذلك من الأعمال الصالحة.
وجدير بنا أن نكثر من الاستغفار؛ فهو من أعظم أسباب دفع العذاب "وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون" [الأنفال:33] وأن نُقْبِل على أعمال القلوب من خوف، ورجاء، ومحبة، وغيرها.
و حقيق علينا أن نُقْبِل _كذلك_ على النفع المتعدي من أمر بالمعروف، ونهي عن المنكر، ودعوة إلى الله، وإصلاح بين الناس، وإحسان إليهم، وما جرى مجرى ذلك.
حادي عشر: الحرص على جمع الكلمة ورأب الصدع:
فالأمة مثخنة بالجراح، وليست بحاجة إلى مزيد من ذلك.
بل هي بحاجة إلى إشاعة روح المودة، والرحمة، ونيل رضا الله بترك التفرق ونبذ الخلاف.
وذلك يتحقق بسلامة الصدر، ومحبة الخير للمسلمين، والصفح عنهم؛ التجاوز عن زلاتهم والتماس المعاذير لهم، وإحسان الظن بهم، ومراعاة حقوقهم، ومناصحتهم بالتي هي أرفق وأحسن.
وتكون بالتغاضي، والبعد عن إيغار الصدور، ونكأ الجراح.
قال ربنا _تبارك وتعالى_: "وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا" [آل عمران: 103]
وقال: "لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً " [النساء:114].
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - في المتفق عليه : "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر".
ثاني عشر: قيام روح الشورى:
خصوصاً بين أهل العلم، والفضل، والحل والعقد، وذلك بأن ينظروا في مصلحة الأمة، وأن يقدموا المصالح العليا قال الله _تعالى_ في وصف المؤمنين: "وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ" [الشورى: 38].
وقال _ عز وجل _ لنبيه ": "وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ" [آل عمران: 159].
فقد أذن الله له "بالاستشارة وهو غني عنها بما يأتيه من وحي السماء؛ تطييباً لنفوس أصحابه، وتقريراً لسنة المشاورة للأمة من بعده.
وكان أبو بكر الصديق – رضي الله عنه - من العلم بالشريعة، والخبرة بوجوه السياسة في منزلة لا تطاولها سماء، ومع هذا لا يبرم حكماً في حادثة إلا بعد أن تتداولها آراء جماعة من الصحابة(16)
وهكذا كان عمر- رضي الله عنه - في الشورى، قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - : "فكان عمر يشاور في الأمور لعثمان وعلي وطلحة والزبير وعبدالرحمن بن عوف وابن مسعود وزيد بن ثابت وأبي موسى ولغيرهم، حتى كان يدخل ابن عباس معهم مع صغر سنه.
وهذا مما أمر الله به المؤمنين ومدحهم عليه بقوله: "وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ" [الشورى: 38].
ولهذا كان رأي عمر، وحكمه، وسياسته من أسدِّ الأمور، فما رؤي بعده مثله قط، ولا ظهر الإسلام وانتشر، وعزَّ كظهوره، وانتشاره، وعزه في زمنه.
وهو الذي كسر كسرى، وقصر قيصر الروم والفرس، وكان أميره الكبير على الجيش الشامي أبا عبيدة، وعلى الجيش العراقي سعد بن أبي وقاص، ولم يكن لأحدٍ -بعد أبي بكر- مثل خلفاءه ونوابه وعماله وجنده وأهل شوراه)(17).
وكما كانت هذه هي سيرةَ الخلفاء الراشدين في الشورى فكذلك كانت سيرة من جاء بعدهم فهذا معاوية - رضي الله عنه - الذي كان مضرب المثل في الدهاء والحلم وكياسة الرأي كان يأخذ بسنة الشورى.
جاء في الثمار للثعالبي ص68 ما يلي: "دهاء معاوية - رضي الله عنه - ذلك ما اشتهر أمره، وسار ذكره، وكثرت الروايات والحكايات فيه، ووقع الإجماع على أن الدهاة أربعة: معاوية، وعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة، وزياد بن أبيه _رضي الله عنهم_ فلما كان معاوية - رضي الله عنه - بحيث هو من الدهاء وبعد الغور_وانضم إليه الدهاة الثلاثة الذين يرون بأول آرائهم أواخر الأمور_ فكان لا يقطع أمراً حتى يشهدوه، ولا يستضيء في ظلم الخطوب إلا بمصابيح آرائهم_سلم له أمر الملك، وألقت إليه الدنيا أزمتها، وصار دهاؤه ودهاء أصحابه الثلاثة مثلاً".
ثم إن للشورى فوائد عظيمة منها تقريب القلوب، وتخليص الحق من احتمالات الآراء، واستطلاع أفكار الرجال، ومعرفة مقاديرها؛ فإن الرأي يمثِّل لك عقلَ صاحبه كما تمثل لك المرآةُ صورةَ شخصِه إذا استقبلها.
وقد ذهب الحكماء من الأدباء في تصوير هذا المغزى مذاهب شتى، قال بعضهم:


إذا عنَّ أمرٌ فاستشر فيه صاحباً *** وإن كنت ذا رأي تشير على الصحبِ
فإني رأيت العين تجهل نفسها *** وتدرك ما قد حل في موضع الشهب

وقال آخر:

اقرن برأيك رأي غيرك واستشر *** فالحق لا يخفى على الاثنين
والمرء مرآةٌ تريه وجهه *** ويرى قفاه بجمع مرآتين


وقال آخر:
الرأي كالليل مسوداً جوانبه *** والليل لا ينجلي إلا بإصباح
فاضمم مصابيحَ آراءِ الرجال إلى *** مصباح ضوئك تزددْ ضوءَ مصباح

وإذا كان العالم النحرير، والحكيم الداهية، والقائد الحصيف لا يستغنون عن الشورى_فكيف بمن دونهم،بل كيف بمن كان شاباً في مقتبل عمره، ولم تصلب بعد قناته، ولم تُحَنِّكْهُ التجارب؟!.
ثالث عشر: الصبر:
قال ربنا _ جل وعلا _: "إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ" [آل عمران: 120].
وقال _ عز وجل _ "لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ" [آل عمران: 186]
ومن أعظم الصبرِ الصبرُ على هداية الناس، والصبر على انتظار النتائج؛ لأن استعجال الثمرة قد يؤدي إلى نتائج عكسية تضر أكثر مما تنفع؛ فالصبر إذا اقترن بالأمر كان عصمة من الملل واليأس والانقطاع، وتفجرت بسببه ينابيع العزم والثبات.
إنه الصبر المترع بأنواع الأمل العريض، وليس صبر اليائس الذي لم يجد بداً من الصبر فصبر.
وبالجملة فإن الصبر من أعظم الأخلاق، وأجلّ العبادات، وإن أعظمَ الصبرِ وأحمده عاقبةً الصبرُ على امتثال أمر الله، والانتهاء عمّا نهى الله عنه؛ لأنه به تَخْلُص الطاعة، ويصِحُّ الدين، ويُسْتَحَقُ الثوابُ؛ فليس لمن قل صبرُه على الطاعةُ حظٌّ من بِرٍّ، ولا نصيبٌ من صلاح.
ومن جميل الصبر: الصبرُ فيما يُخْشَى حدوثُه من رهبة يخافها، أو يحذرُ حلولُه من نكبةٍ يخشاها، فلا يتعجلْ همَّ ما لم يأتِِ؛ فإن أكثر الهموم كاذبة، وإن الأغلب من الخوف مدفوع.
ومن جميل الصبرِ الصبرُ على ما نـزل من مكروه، أو حلّ من أمر مخوف؛ فبالصبر في هذا تنفتحُ وجوهُ الآراءِ، وتُسْتَدْفَعُ مكائدُ الأعداءِ؛ فإن من قلّ صبره عَزُب رأيه، واشتد جزعُه، فصار صريعَ همومه، وفريسةَ غمومه.
وكما أن الأفرادَ بأمسِّ الحاجةِ إلى الصبر فكذلك الأمة؛ فأمة الإسلام كغيرها من الأمم؛ لا تخرج عن سنن الله الكونية، فهي عرضةٌ للكوارث، والمحن.
وهي_في الوقت نفسه_مكلفةٌ بمقتضى حكم الله الشرعي بحمل الرسالة الخالدة، ونشر الدعوة المباركة، وتحمُّلِ جميعِ ما تلاقيه في سبيلها برحابة صدر، وقوةِ ثباتٍ، ويقينٍ بأن العاقبة للتقوى وللمتقين.
وهي _كذلك_ مطالبة بالجهاد في سبيل الله؛ لإعلاء كلمة الله، ونشر دين الله، وإزاحة ما يقف في وجه الدعوة من عقبات؛ فلا بد لها من الجهاد الداخلي الذي لا يتحقق إلا بمجاهدة النفس والهوى.
وهذا الجهاد لا يتحقق إلا بخلق الصبر، ومغالبة النفس والشيطان والشهوات؛ فذلك هو الجهاد الداخلي الذي يؤهِّل للجهاد الخارجي؛ لأن الناس إذا تُرِكوا وطباعَهم وما أُوْدِعَ فيها من حبِّ للراحة، وإيثارٍ للدَّعة، ولم يُشَدَّ أَزْرُهُمْ بإرشاد إلهي تطمئن إليه نفوسهم، ويثقون بحسن نتائجه_ عجزت كواهِلُهم عن حمل أعباء الحياة، وخارت قواهم أمام مغرياتها، وذاب احتمالُهم إزاء ملذاتها وشهواتها؛ فَيَفْقِدُون كلَّ استعدادٍ لتحصيل السمو، والعزة، والمنـزلة اللائقة.
فلهذا اختار الله لهم من شرائع دينه ما يصقُل أرواحهم، ويزكّي نفوسهم، ويمحص قلوبهم، ويربي ملكات الخير فيهم من صلاة، وزكاة، وصيام، وحج وغيرها من الشرائع..
رابع عشر: إشاعة روح التفاؤل:
فإن ذلك مما يبعث الهمة، ويدعو إلى اطراح الخور والكسل، ويقود إلى الإقبال على الجد والعمل؛ فلنثق بالله _ عز وجل _ ونصره وتأييده، ولنحذر من كثرة التلاوم، وإلقاء التبعات على الآخرين، ولنحذر من القنوط واليأس، والتشاؤم؛ فالإسلام لا يرضى هذا المسلك بل يحذر منه أشد التحذير.
ثم لنثق بأن في طي هذه المحن منحاً عظيمة.


كم نعمة لا تستقل بشكرها *** لله في طي المكاره كامنة

ولو لم يأت من ذلك إلا أن الأمة تصحو من رقدتها، وتعود إلى ربها ودينها.
ولو لم يأت من ذلك إلا أن هذا الجيل الجديد بدأ يعرف أعداءه، ويطرق سمعه مسائل الولاء والبراء، ويدرك ما يحاك حوله من مؤامرات، ويشعر بأن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين.
ولو لم يأت من ذلك إلا أن المسلمين _ صاروا يشعرون بروح الجسد الواحد، ويتعاطفون مع إخوانهم في كل مكان، ويحرصون على تتبع أخبارهم، وتقديم المستطاع لهم، كل ذلك مع ما يواجهونه من التضليل الإعلامي، وما يحارَبون به من سيل الشهوات العارم.
أين حال المسلمين الآن من حالهم قبل تسعين سنة؟ أين هم لما سيطر الشيوعيون على روسيا، وانقلبوا على الحكم القيصري؟ ماذا فعل زعماء الشيوعية؟ يكفي أن نمثل بواحد منهم فحسب، إنه المجرم ستالين الذي قتل إبان فترة حكمه ثلاثين مليوناً من البشر، جُلُّهم من المسلمين.
إن أكثر المسلمين في ذلك الوقت لم يكونوا ليعلموا عن إخوانهم آنذاك شيئاً، بل إن كثيراً منهم لم يعلموا أن الجمهوريات الإسلامية التي استولى عليها الشيوعيون _كانت بلاداً إسلامية إلا بعد أن انهارت الشيوعية قريباً.
أما الآن فإن المسلمين على درجة من الوعي والإدراك، والسعي في مصالح إخوانهم، والمؤمل أكثر من ذلك، وإنما المقصود أن يُبَيَّن أن الخير موجود، وأنه يحتاج إلى مزيد.
وبالجملة فإن التفاؤل دأب المؤمن، وهو سبيل التأسي بالنبي- صلى الله عليه وسلم - "خصوصاً في وقت اشتداد المحن؛ وليس أدل على ذلك مما كان في غزوة الأحزاب بالمدينة، وبلغت القلوب الحناجر، ومع ذلك كان _عليه الصلاة والسلام_ يبشر أصحابه بمفاتيح الشام، وفارس، واليمن(18).
وإذا تُحدن عن الفأل، والحث على نشره _ فإن ذلك لا يعني القعود، والخمود، والهمود؛ كحال من يؤملون الآمال العراض، ويفرطون في الأماني بحجة أن ذلك من الفأل، وهم كسالى قاعدون، لا يتقدمون خطوة، ولا ينهضون من كبوة.
لا ليس الأمر كذلك؛ بل إن الفأل المجدي هو ذلك الذي يحرك صاحبه، ويبعثه على الجد، ويشعره بالنجح، ويقوده إلى إحسان الظن، ويبشر بحسن العواقب.
خامس عشر: التثبت مما يقال، والنظر في جدوى نشره، والحرص على رد الأمور إلى أهلها:
فالعاقل اللبيب لا يتكلم في شيء إلا إذا تثبَّت من صحته؛ فإذا ثبت لديه ذلك نَظَرَ في جدوى نشره؛ فإن كان في نشره حفز للخير، واجتماعٌ عليه _نشره، وأظهره، وإن كان خلاف ذلك أعرض عنه، وطواه.
ولقد جاء النهي الصريح عن أن يحدث المرء بكل ما سمع.
قال - صلى الله عليه وسلم - : "كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع" (19).
وقد عقد الإمام مسلم في مقدمة صحيحه باباً سماه (باب النهي عن الحديث بكل ماسمع) وساق تحته جملة من الآثار منها الحديث السابق، ومنها مارواه بسنده عن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه - قال: "بحسب المرء من الكذب أن يحدث بكل ما سمع"(20).
وقال مسلم: "حدثنا محمد بن المثنى قال: سمعت عبدالرحمن بن مهدي يقول: "لا يكون الرجل إماماً يقتدى به حتى يمسك عن بعض ما سمع"(21).
ويتعين هذا الأدب في وقت الفتن والملمات، فيجب على المسلم أن يتحرى هذا الأدب؛ حتى يقرب من السلامة، وينأى عن العطب.
قال الله _تعالى_:"وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمْ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً" [النساء:83].
قال الشيخ العلامة عبدالرحمن السعدي - رحمه الله تعالى- في تفسير هذه الآية: "هذا تأديب من الله لعباده عن فعلهم هذا غير اللائق، وأنه ينبغي لهم إذا جاءهم أمر من الأمور المهمة، والمصالح العامة مما يتعلق بالأمن، وسرور المؤمنين أو بالخوف الذي فيه مصيبة عليهم _أن يتثبتوا، ولا يستعجلوا بإشاعة ذلك الخبر، بل يردونه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم: أهل الرأي، والعلم، والنصح، والعقل، والرزانة، الذين يعرفون الأمور، ويعرفون المصالح وضدها.
فإذا رأوا في إذاعته مصلحة ونشاطاً للمؤمنين، وسروراً لهم، وتحرزاً من أعدائهم_فعلوا ذلك، وإن رأوا ما ليس فيه مصلحة، أو فيه مصلحة، ولكن مضرته تزيد على مصلحته لم يذيعوه.
ولهذا قال: "لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ".
أي يستخرجونه بفكرهم وآرائهم السديدة، وعلومهم الرشيدة.
وفي هذا دليل لقاعدة أدبية، وهي أنه إذا حصل بحث في أمر من الأمور ينبغي أن يولى من هو أهل لذلك، ويجعل إلى أهله، ولا يُتقدم بين أيديهم؛ فإنه أقرب إلى الصواب، وأحرى للسلامة من الخطأ.
وفيه النهي عن العجلة والتسرع لنشر الأمور من حين سماعها، والأمرُ بالتأمل قبل الكلام، والنظر فيه هل هو مصلحة فيقدم عليه الإنسان أم لا فيحجم عنه؟"(22)
وقال - رحمه الله تعالى - في موضع آخر حاثاً على الثبت، والتدبر، والتأمل قال: "وفي قوله _تعالى_: "وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً" [طـه:114] أدبُ طالب العلم، وأنه ينبغي له أن يتأنى في تدبره للعلم، ولا يستعجل بالحكم على الأشياء، ولا يعجب بنفسه، ويسأل ربه العلم النافع والتسهيل" (23) وقال: قوله –تعالى-: "لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ" [النور: 12] هذا إرشاد منه لعباده إذا سمعوا الأقوال القادحة في إخوانهم المؤمنين رجعوا إلى ما علموا من إيمانهم، وإلى ظاهر أحوالهم، ولم يلتفتوا إلى أقوال القادحين، بل رجعوا إلى الأصل، وأنكروا ما ينافيه.(24).
قال ابن حبان- رحمه الله - :"أنشدني منصور بن محمد الكريزي"

الرفقُ أيمنُ شيءٍ أنت تَتْبَعُه *** والخُرق أشأمُ شيء يُقْدِم الرَّجُلا
وذو التثبت من حمد إلى ظَفَرٍ ***من يركبِ الرفقَ لا يستحقبِ الزللا (25)

هذا وسيتضح شيء من ذلك في الفقرة التالية.