أيام في كوريا الشمالية ... بلاد التناقضات تصل اليها «عبر الزمان» لترى سلاحاً نووياً الى جانب عربات تجرها الثيران تعتبر زيارة كوريا الشمالية، او بحسب اسمها الرسمي «جمهورية كوريا الديمقراطية الشعبية»، بحق، رحلة في الزمان نحو الماضي قرابة نصف قرن على الأقل. وليس في العالم اليوم بلد يشبه هذه البلاد، ولا شعب يعيش كما يعيش شعبها، فهي من حيث الطبيعة لوحة فنية خارقة الجمال، زاهية الألوان، خلابة المناظر. والدخول إليها يؤكد انها مجرد لوحة، فباستثناء طبيعتها فإن كل شيء فيها يعمل على طريقة التحكم من بعد تمثال كيم ايل سونغ ومن خلفه المتحف الوطني وهي بلاد التناقضات بامتياز، ففي الوقت الذي تقارع فيه الولايات المتحدة الأميركية بالسلاح النووي لا تزال تفتقر مثلاً شبكة هاتف خليوي او شبكة بريد إلكتروني (انترنيت)، عدا عن الأجهزة الرسمية والحزبية. وفي الوقت الذي تعتبر فيه دولة ملحدة وليس فيها اي نوع من دور العبادة فإن طقوس العبادة المطلقة تمارس تجاه زعيمها الراحل كيم ايل سونغ ونجله الحاكم الحالي كيم جونغ ايل. وقد تكون الجغرافيا هي العامل الحاسم الذي تعمل عليه سلطات هذه البلاد لمواصلة احكام قبضة فولاذية على شعبها، فكوريا الشمالية تقع على خط التماس بين اربع دول كبرى هي الصين وروسيا واليابان والولايات المتحدة التي لا تزال تنشر قواتها العسكرية في الشطر الجنوبي من شبه الجزيرة الكورية. واللعب على التناقضات بين هذه الدول العظمى يجعل من الشطر الشمالي لكوريا منطقة شديدة الحساسية، فلا الولايات المتحدة تستطيع ان تكرر تجربة الحرب الكورية (بين العامين 1950 و 1953) ولا الصين في وارد التضحية بنفوذها فيها لأنها تشكل خاصرتها الرخوة. من هنا كان تشكيل لجنة سداسية تضم، إضافة إلى الصين والولايات المتحدة الأميركية، روسيا واليابان والكوريتين الشمالية والجنوبية، لمعالجة ملف امتلاك الشطر الشمالي أسلحة نووية. وللسلاح النووي في كوريا الشمالية قصة لا بد ان تروى. كوريا الشمالية، هي بلد يعتمد بصورة اساسية على زراعة الرز والذرة والقمح بكميات بالكاد تكفي 25 مليون نسمة يشكلون عدد السكان. وإنتاج القوت اليومي للناس يعتمد بصورة اساسية على أحوال الطقس. وعندما شهدت كوريا الشمالية حالة جفاف وانحباس للمطر في العقد الماضي أدت المجاعة الى وفاة اكثر من مليون نسمة من دون ان تتحرك هيئات الإغاثة الدولية لمد يد العون، إلا من بعض المساعدات التي قدمتها كل من الصين وروسيا وهي تشكل فتاتاً لا يغني عن جوع، فكان ان توجهت السلطات إلى العمل على اتجاهين، الأول هو الأسلحة الصاروخية والثاني هو منطق «البلطجة» النووية. في الاتجاه الأول بدأت كوريا الشمالية تواجه مصاعب في تصريف الإنتاج بسبب الضغط الأميركي المتواصل على هذه السوق والمراقبة الدقيقة لحركة الموانئ الكورية، أما في الاتجاه الثاني فإن السلطات الكورية الشمالية عرفت جيداً ان موقعها الجغرافي من الحساسية بمكان يجعلها في موقع التفاوض القوي بين الدول العظمى، وبنجاحها في إنتاج القنبلة الذرية فرضت على هذه الدول تسوية تقضي بتقديم بضعة بلايين من الدولارات من اجل تفكيك برنامجها النووي. هكذا اخذ الملف النووي الكوري في تشرين الأول (اكتوبر) من العام الماضي يحتل حيزاً كبيراً في الإعلام العالمي، من دون ان يكون لأي من المؤسسات الإعلامية في العالم القدرة على الدخول الى تلك البلاد التي تعتبر آخر معاقل الستالينية في العالم، فمجرد دخول تلك البلاد يعد امراً مثيراً لشهية اي صحافي. وكان من الطبيعي لنا التواصل مع من يتيسر من قدامى الأصدقاء اليساريين الذين تربطهم علاقة جيدة بحزب العمال الاشتراكي الحاكم في كوريا الشمالية للمساعدة في الحصول على تأشيرة دخول، وفي البال معرفة مسبقة بأن طبيعة هذا البلد غير مضيافة في تعاملها مع الصحافيين ولا متساهلة معهم. من العروض الاحتفالية في الذكرى 95 لميلاد كيم ايل سونغ لا سفارة لكوريا الشمالية في بيروت، لذلك كان لا بد من التوجه الى دمشق ولقاء القائم بالأعمال الكوري الشمالي الذي قدم نفسه باسم «كيم ابو عبدو». بعد التعارف وتقديم طلب الذهاب الى بلاده رسمياً بصورة شفهية كان واضحاً جداً من الإجابة أنه سينقل الطلب إلى بلاده ويعطي الرد في مهلة أيام. امتدت المهلة أكثر من أسبوعين ليأتي الجواب بأن لا رغبة لدى بلاده باستقبال صحافيين في تلك المرحلة، وان الأمر قد يتطلب بضعة اشهر. الى ان كان شهر آذار (مارس) الماضي عندما جاءت الموافقة على التأشيرة مع توضيح لا يقبل اللبس انه سيكون هناك «تضييق شديد» على عملنا، وان خط السير الذي يجب ان نعتمده هو عبر العاصمة الصينية بكين. وسبق ختم التأشيرة على جواز السفر استيضاح عن المعدات التي ستكون في حوزتنا. وقبل مغادرة السفارة أوضح لنا «ابو عبدو» ان الطيران الكوري الشمالي غير مدرج ضمن أنظمة الطيران العالمية على أجهزة الكومبيوتر وبالتالي علينا الاتصال به وإبلاغه موعد وصولنا الى بكين ليؤمن لنا حجزاً على الطيران الكوري الى العاصمة الكورية الشمالية بيونغيانغ. بعد أيام قليلة، واثر حصولنا على تأشيرة دخول الى الصين وشراء تذكرة السفر أجرينا اتصالاً اخيراً بـ «ابو عبدو» لإبلاغه بموعد وصولنا بكين، فأفادنا ايضاً انه يمنع علينا اخذ هواتف خليوية وانه يسمح فقط بإدخال آلات التصوير المخصصة للهواة. من بكين استقللنا طائرة روسية الصنع قديمة من طراز ايليوشين 62 في رحلة دامت ساعة ونصف الساعة الى العاصمة بيونغيانغ. مع وصولنا الى تلك المدينة استقبلتنا في ارض المطار بضع طائرات قديمة ومبنى من ثلاث طبقـات رفعت فوقه صورة الزعيم الكوري الشمالي الراحل كيم ايل سونغ. وفي ارض المطار كان جنود الحراسة يتـحـركـون بـأناقة عسكرية لافتة واحترام كبير في تعاملهم مع الركاب، وكان لافتاً وجود مرافقين كوريين على ارض المطار بانتظار الركاب الأجانب على الطائرة لذا لم تأخذ معاملات ختم الجوازات الكثـيـر من الوقـت كـذلك تفتيش الحقائب، وقبل مغادرة منطقـة الجمارك تمّ جمع أجهزة الهواتف الخليوية من كل الأجانب (لا يحمل الكوريون هواتف خليوية) وأعطي كل صاحب جهاز ورقة لإبرازها عند المغادرة لاستعادة هاتفه. وقبل التوجه الى الحافلة كان التنبيه الأول علينا انه يمنع التصوير من الحافلات تحت طائلة المسؤولية. تحركت الحافلة تشق طريقها بين مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية على طرق شبه خالية الا من بعض المشاة او راكبي الدراجات الهوائية او الحناطير التي تجرها الثيران، يتحركون على شوارع ترابية بين بيوت خشبية على الطراز الصيني او بين ابنية حكومية ومصانع، فيما كان لافتاً ان الفلاحين في هذه الحقول كان يحرثون الأرض بمحاريث تجرها الثيران ايضاً. كان الجو غائماً والطبيعة في المراحل الأولى للبس ثوب الربيع، لذا كان الكثير من أشجارها لا يزال عارياً مع براعم خضراء صغيرة على الغصون، فيما كانت الأعشاش المهجورة للعصافير تبدو جلية في أعالي الشجر، وأنواع أخرى من العصافير الوافدة تبدو وهي في المراحل الأولى من بنائها اعشاشاً جديدة. لم يكن الطقس بارداً على رغم بعض رذاذ المطر الذي غسل الحشائش في الحقول فزاد من خضرتها، وجعل عبير الطين الممزوج بروائح بعض انواع الزهور البرية يقتحم شقوق النوافذ في الحافلة الى انوفنا مستحضراً رائحة الريف. بعد مسيرة قاربت نصف الساعة أطلت علينا مدينة بيونغيانغ بأبنية ترك الزمان على الكثير منها بصمات قاسية من الرطوبة وانقشاع الدهان عن الجدران، كما أطلت نصب وتماثيل ضخمة تحكي قصة بلاد عاشت حروباً قاسية تخللها الكثير من الانكسارات والانتصارات. كان فريقنا الإعلامي عبارة عن شخصين، المصور وأنا، لكن مرافقي فريقنا الكوريين كانوا أربعة، ثلاثة رجال وامرأة، اثنان منهم يخاطباننا فيما الاثنان الآخران هما عبارة عن سائق وشخص آخر لم تحدد لنا وظيفته ولا هو يتكلم لغة أجنبية. اقتادتنا الحافلة الصغيرة الى فندق يقع فوق جزيرة في نهر يتلوى في بيونغيانغ بهدوء الأفعى، وليس فوق هذه الجزيرة مبان أخرى سوى مبنى حكومي قيل لنا انه مسرح، لكن، طوال إقامتنا في الأيام الستة لزيارتنا لم نر اي حركة فيه. اما الفندق فهو مبنى ضخم يضم اكثر من أربعين طبقة، كل شيء فيه يدل على عدم الاستخدام فترات طويلة، وكل الموظفين يتحركون وعلى صدورهم أزرار تحمل صورة الزعيم الراحل كيم ايل سونغ. لا يمكن ان يجرى الاتصال بين الغرف الا عبر المقسم المركزي في الفندق، اما الاتصال الى خارج البلاد فيتم في إحدى زوايا البهو الأرضي فيما هناك ستارة تكشف اكثر مما تخفي الأشخاص المكلفين التنصت على المكالمات. وفوق طاولة الاستقبال رفعت لوحة إلكترونية تشير الى ان اسعار الغرف باليورو، وهي اسعار خيالية لا تتناسب مع شكل الفندق والخدمات التي يقدمها، فايجار الغرفة العادية 250 يورو وفنجان القهوة السوداء سعره سبعة يورو، اما قنينة المياه المعدنية الصغيرة فيبلغ سعرها ثلاثة يورو، فيما يبلغ سعر وجبة الطعام، على، فقرها 15 يورو. هكذا فإن التعاطي المالي مع الأجنبي في هذه البلاد هو كالتعاطي مع البقرة الحلوب سد البحر الغربي قرب مدينة نام فو بعد استراحة قصيرة، اعلمنا مرافقنا الكوري «هان» ان سبب الموافقة على زيارتنا بلاده هو الاحتفالات التي تشهدها لمناسبة الذكرى الخامسة والتسعين لولادة الزعيم كيم ايل سونغ الذي توفي عام 1994، وان اول النشاطات التي يجب ان نقوم بتغطيتها هو مهرجان استعراضي ضخم يشارك فيه اكثر من مئة ألف استعراضي في ملعب كبير لكرة القدم في بيونغيانغ، والطريف في الأمر انه كان علينا ان ندفع خمسين يورو بدل إيجار لقطعة قماش زرقاء كتب عليها حرف «ب» باللغتين الكورية والإنكليزية للتعريف عن أنفسنا بأننا صحافيون، كما علينا ان ندفع 300 يورو ثمن كل تذكرة للدخول الى هذا الاستعراض. لم يكن الاجتماع مع أحد كبار المسؤولين في اليوم الأول لوصولنا ذا فائدة في تغيير اي من البرامج المعدة لنا سلفاً، وأبلغنا بوضوح انه علينا الالتزام بالبرنامج كما هو، وان موضوع الملف النووي غير قابل للكلام فيه بأي صورة من الصور. برنامج الزيارة كان ككل شيء في هذه البلاد، معد مسبقاً تماماً كوجبات الطعام في المطاعم، فليس في اي من المطاعم التي دخلناها لائحة طعام، وإنما على الزبون ان يتناول ما يقدم له كماً ونوعاً بلا تعديل، وان حصل وطالب (كما حصل معنا اكثر من مرة) بأي تعديل في الكم على الأقل (لا إمكانية للتعديل في النوع) فإن الأمر يتطلب نقاشاً مطولاً بين المسؤولين عن المطعم وأحياناً يتطلب الأمر اتصالاً بجهة عليا. الديبلوماسيون الأجانب: الاعتصام على شجرة أو الانتحار! حياة الديبلوماسيين الأجانب مأساة فعلية في كوريا الشمالية، فكل أعضاء السلك الديبلوماسي يعيشون في مجمع واحد مقسم الى فيلات مستقلة تحت حراسة ومراقبة شديدتين. يمنع عليهم زيارة اي منطقة خارج بيونغيانغ من دون تصريح، ويمنع على اي كوري زيارة هذا المجمع من دون تصريح. ولأن دوام المترجمين الذين يعملون مع أعضاء السلك الديبلوماسي ينتهي عند الساعة الخامسة مساء، يصبح المنفس الوحيد لهؤلاء هو تبادل الزيارات. ينحصر الحضور العربي في السلك الديبلوماسي بأربع سفارات تمثل سورية وليبيا ومصر وفلسطين، ومن المقرر ان تقفل السفارة الليبية أبوابها في نهاية الشهر الجاري. ولا يكاد يتجاوز الحضور الديبلوماسي العربي في هذه السفارات السفير وزوجته اما العاملون فهم عادة من الكوريين الذين يتقاضون مرتباتهم من حكومتهم فيما تتقاضى حكومتهم أجورهم من السفارة المعنية. ويبلغ المرتب الذي تتقاضاه كوريا عن كل موظف في سفارة ما بين السبعين والمئة يورو فيما يبلغ المرتب الذي يصل الى هذا الموظف من حكومته ما يقارب اليورو ونصف اليورو شهرياً. يسمح للديبلوماسيين فقط بتركيب صحون استقبال لمحطات التلفزة الفضائية وبامتلاك هواتف خليوية تعمل عبر الأقمار الاصطناعية، وذلك في مقابل رسم مالي «خيالي» يبلغ المئات من اليورو شهرياً. وتشكل الصين المصدر الرئيسي لتزود الديبلوماسيين بالغذاء، اذ يقوم الديبلوماسي، بحسب أوضاعه المادية، بزيارة الى احدى القرى الصينية في شمال كوريا يتسوق خلالها بكل شيء من المأكل والمشرب وبأسعار رخيصة جداً اذا قورنت بالأسعار في كوريا الشمالية وبنوعية لا يمكن مقارنتها بالنوعية السيئة في كوريا الشمالية. هذه الأوضاع توقع الكثير من الديبلوماسيين في حالات اكتئاب وتجعلهم يرتكبون أفعالاً تفوق الخيال. فمنذ مدة وجيزة قام أحد الديبلوماسيين بخلع ملابسه وأبقى على شورت رياضي وتسلق شجرة في حديقة السفارة ونادى على الموظفين قائلاً لهم ان يبلغوا بلاده انه لن ينزل عن الشجرة الا بعد ان يتلقى قراراً بنقله من كوريا. وكان ان صدر القرار بعد يومين من بقائه على الشجرة. وهناك ديبلوماسي آخر آثر الانتحار بشنق نفسه في حديقة منزله هذه اضافات جمعتها من موقع واخر للمشاركة وانزال الفائدة