تصريح وزارة الثقافة والإعلام رقم م ن / 154 / 1432


العودة   شبكة البراري > منتديـات البراري الرئيسيــة > منتدى الرحلات والسياحة والأجهزة البرية

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 2008-02-11, 01:43 PM
مكشات 2007 مكشات 2007 غير متواجد حالياً
عـضـو فـعـال
 
تاريخ التسجيل: Nov 2007
الدولة: السعوديه
المشاركات: 191
جنس العضو: ذكر
مكشات 2007 is on a distinguished road
افتراضي وصف الرحاله بن خلدون للحرمين الشريفين قبل 700 عام تقريبا

الجزء الاول : مسجد الرسول عليه افضل الصلاة والسلام
ونزلنا من عقبة الصوان إلى الصحراء التي يقال فيها: داخلها مفقود وخارجها مولود. وبعد مسيرة يومين نزلنا ذات حج، وهي حسيان لا عمارة بها، ثم إلى وادي بلدح ولا ماء به، ثم إلى تبوك وهو الموضع الذي غزاه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفيها عين ماء كانت تبض بشيء من الماء. فلما نزلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوضأ منها، جادت بالماء المعين. ولم يزل إلى هذا العهد ببركة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن عادة حجاج الشام إذا وصلوا منزل تبوك، أخذوا أسلحتهم، وجردوا سيوفهم، وحملوا على المنزل، وضربوا النخل بسيوفهم، ويقولون: هكذا دخلها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وينزل الركب العظيم على هذه العين فيروي منها جميعهم، ويقيمون أربعة أيام للراحة وإرواء الجمال واستعداد الماء للبرية المخوفة التي بين العلا وتبوك. ومن عادة السقائين أنهم ينزلون على جوانب هذه العين، ولهم أحواض مصنوعة من جلود الجواميس، كالصهاريج الضخام يسقون منها الجمال، ويملأون الروايا والقرب. ولكل أمير أو كبير حوض يسقي منه جماه وجمال أصحابه، ويملأ رواياهم. وسواهم من الناس يتفق مع السقائين على سقي جمله وملء قربته، بشيء معلوم من الدراهم.
ثم يرحل الركب من تبوك، ويجدون السير ليلا ونهارا خوفا من هذه البرية. وفي وسطها الوادي الأخيضر: كأنه وادي جهنم، أعاذنا الله منها. وأصاب الحجاج به في بعض السنين مشقة بسبب ريح السموم التي تهب، فانتشفت المياه، وانتهت شربة الماء إلى ألف دينار، ومات مشتريها وبائعها. وكتب ذلك في بعض صخر الوادي. ومن هنالك ينزلون بركة المعظم، وهي ضخمة، نسبتها إلى الملك المعظم من أولاد أيوب. ويجتمع بها ماء المطر في بعض السنين، وربما جف في بعضها، وفي الخامس من أيام رحيلهم عن تبوك يصلون البئر الحجر حجر ثمود، وهي كثيرة الماء، ولكن لا يردها أحد من الناس، مع شدة عطشهم، اقتداء بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مر بها في غزوة تبوك، فأسرع براحلته وأمر أن لا يسقى منها أحد. ومن عجن به أطعمه الجمال. وهنالك ديار ثمود في جبال من الصخر الأحمر منحوتة، لها عتب منقوشة يظن رائيها أنها حديثة الصنعة، وعظامهم نخرة في داخل تلك البيوت. إن في ذلك لعبرة، ومبرك ناقة صالح عليه السلام بين جبلين هنالك، وبينهما أثر مسجد يصلي الناس فيه، وبين الحجر والعلا نصف يوم أو دونه. والعلا قرية كبيرة حسنة لها بساتين النخل والمياه المعينة، يقيم بها الحجاج أربعا، يتزودون ويغسلون ثيابهم ويدعون بها ما يكون عندهم من فضل زاد ويستصحبون قدر الكفاية. وأهل هذه القرية أصحاب أمانة، وإليها ينتهي تجار نصارى الشام، لا يتعدونها، ويبايعون الحجاج الزاد وسواه. ثم يرحل الركب من العلا فينزلون في غد رحيلهم الوادي المعروف بالعطاس، وهو شديد الحر تهب فيه السموم المهلكة. هبت السنين على الركب فمل يخلص منها إلا اليسير. وتعرف تلك السنة سنة الأمير الجالقي، ومنه ينزلون هدية، وهي حسيان ماء بواد يحفرون به، فيخرج الماء وهو زعاق. وفي اليوم الثالث ينزلون البلد المقدس الكريم الشريف.
طيبه مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرف وكرم
وفي عشي ذلك اليوم دخلنا الحرم الشريف، وانتهينا إلى المسجد الكريم، فوقفنا بباب السلام مسلمين، وصلينا بالروضة الكريمة بين القبر والمنبر الكريم، واستلمنا القطعة الباقية من الجذع الذي حن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي ملصقة بعمود قائم بين القبر والمنبر عن يمين مستقبل القبلة، وأدينا حق السلام على سيد الأولين والآخرين، وشفيع العصاة والمذنبين، والرسول النبي الهاشمي الأبطحي محمد صلى الله عليه وسلم تسليما، وشرف وكرم وحق السلام على ضجيعيه وصاحبيه أبي بكر الصديق وأبي حفص عمر الفاروق رضي الله عنهما. وانصرفنا إلى رحلنا مسرورين بهذه النعمة العظمى، مستبشرين بنيل هذه المنة الكبرى، حامدين الله تعالى على بالبلوغ إلى معاهد رسوله الشريفة، ومشاهده العظيمة المنيفة، داعين أن لا يجعل ذلك آخر عهدنا بها، وأن يجعلنا ممن قبلت زيارته، وكتبت في سبيل الله سفرته.
ذكر مسجد رسول الله وروضته الشريفة
المسجد المعظم مستطيل، تحفه من جهاته الأربع بلاطات دائرة به، ووسطه صحن مفروش بالحصى والرمل، ويدور بالمسجد الشريف شارع مبلط بالحجر المنحوت. والروضة المقدسة صلوات الله وسلامه على ساكنها في الجهة القبلية مما يلي الشرق من المسجد الكريم، وشكلها عجيب لا يتأتى تمثيله. ووهي منورة بالرخام البديع النحت الرائق النعت، قد علاها تضميخ المسك والطيب مع طول الأزمان. وفي الصفة القبلية منها مسمار فضة هو قبالة الوجه الكريم. وهنالك يقف الناس مستقبلين الوجه الكريم مستدبرين القبلة، فيسلمون وينصرفون يمينا إلى وجه أبي بكر الصديق، ورأس أبي بكر رضي الله عنه عند قدمي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ينصرفون إلى عمر بن الخطاب، ورأس عمر عند كتفي أبي بكر رضي الله عنهما. وفي الجوفي من الروضة المقدسة، زادها الله طيبا، حوض صغير مرخم، وفي قبلته شكل محراب، يقال: إنه كان بيت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليما، ويقال أيضا: هو قبرها، والله أعلم. وفي وسط المسجد الكريم دفة مطبقة على وجه الأرض، مقفلة على سرداب له مدرج يفضي إلى دار أبي بكر رضي الله عنه خارج المسجد، وعلى ذلك السرداب كان طريق عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها إلى داره، ولا شك أنه هو الخوخة التي ورد ذكرها في الحديث، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بإبقائها، وسد ما سواها. وبإزاء دار أبي بكر رضي الله عنه دار عمر، ودار ابنه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وبشرقي المسجد الكريم دار إمام المدينة أبي عبد الله مالك بن أنس رضي الله عنه، وبمقربة من باب السلام سقاية، ينزل إليها على درج، ماؤها معين، وتعرف بالعين الزرقاء.
ذكر ابتداء بناء المسجد الكريم قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليما المدينة الشريفة دار الهجرة يوم الإثنين ليلة الثالث عشر من شهر ربيع الأول، فنزل على بني عمرو بن عوف، وأقام عندهم ثنتين وعشرين ليلة، وقيل أربع عشرة ليلة، وقيل أربع ليال، ثم توجه إلى المدينة فنزل على بني النجار بدار أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه، وأقام عنده سبعة أشهر حتى بنى مساكنه ومسجده. وكان موضع المسجد مربدا لسهل وسهيل ابني رافع أبي عمر بن عاند بن ثعلبة بن غانم بن مالك بن النجار. وهما يتيمان في حجر أسعد بن زرارة رضي الله عنهم أجمعين. وقيل: كانا في حجر أبي أيوب رضي الله عنه، فابتاع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك المربد، وقيل بل أرضاهما أبو أيوب عنه. وقيل: إنهما وهباه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فبنى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد، وعمل فيه مع أصحابه، وجعل عليه حائطا، ولم يجعل له سقفا ولا أساطين، وجعله مربعا، طوله مائة ذراع، وعرضه مثل ذلك. وقيل: إن عرضه كان دون ذلك. وجعل ارتفاع حائطه قدر القامة. فلما اشتد الحر تكلم أصحابه في تسقيفه، فأقام له أساطين من جذوع النخل، وجعل سقفه من جريدها. فلما أمطرت السماء وكف المسجد. فكلم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمله بالطين. فقال: كلا عريش كعريش موسى، أو ظله كظلة موسى، والأمر أقرب من ذلك.
قيل: وما ظلة موسى ? قال الله صلى الله عليه وسلم: كان إذا قام أصاب السقف رأسه.
وجعل للمسجد ثلاثة أبواب: ثم سد باب الجنوب منها حين حولت القبلة، وبقي المسجد على حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليما، وحياة أبي بكر رضي الله عنه. فلما كانت أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه زاد في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال: لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ينبغي أن نزيد في المسجد ما زدت فيه. فأنزل أساطين الخشب، وجعل مكانها أساطين اللبن، وجعل الأساس حجارة إلى القامة، وجعل الأبواب ستة، منها في كل جهة ما عدا القبلة بابان، وقال: في باب منها ينبغي أن يترك هذا للنساء فما رئي فيه. حتى لقي الله عز وجل، وقال: زدنا في هذا المسجد حتى يبلغ الجبانة، لم يزل مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأراد عمر أن يدخل في المسجد موضعا للعباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهما، فمنعه منه. وكان فيه ميزاب يصب في المسجد، فنزعه عمر. وقال: إنه يؤذي الناس، فنازعه العباس، وحكما بينهما أبي بن كعب رضي الله عنهما، فأتيا داره فلم يأذن لهما إلا بعد ساعة، ثم دخلا إليه، فقال: كانت جاريتي تغسل رأسي، فذهب عمر ليتكلم، فقال له أبي: دع أبا الفضل يتكلم لمكانه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال العباس، خطة خطها لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبنيتها معه، وما وضعت الميزاب إلا ورجلاي على عاتقي رسول الله فجاء عمر فطرحه وأراد إدخالها في المسجد. فقال أبي: إن عندي من هذا علما. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أراد داود عليه السلام أن يبني بيت الله المقدس. وكان فيه بيت ليتيمين فراودهما على البيع فأبيا. ثم راودهما فباعاه. ثم قاما بالغين فردا البيع، واشتراه منهما. ثم رداه كذلك. فاستعظم داود الثمن. فأوحى الله إليه إن كنت تعطي من شيء فهو لك؛ فأنت أعلم. وإن كنت تعطيهما نم رزقنا فأعطهما حتى يرضيا. وإن أغنى البيوت عن مظلمة بيت هو لي، وقد حرمت عليك بناءه.
قال: يا رب فأعطه سليمان. فأعطاه سليمان ليه السلام. فقال عمر: من لي بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله ? فخرج أبي إلى قوم من الأنصار، فأثبتوا له ذالك. فقال عمر رضي الله عنه أما إني لو لم أجد غيرك أخذت قولك، ولكنني أحببت أن أثبت. ثم قال للعباس رضي الله عنه: والله لا ترد الميزاب إلا وقدماك على عاتقي. ففعل العباس ذلك. ثم قال: أما إذا أثبتت لي، فهي صدقة لله، فهدمها عمر، وأدخلها في المسجد. ثم زاد فيه عثمان رضي الله عنه، وبناه بقوة وباشره بنفسه، فكان يظل فيه نهاره، وبيضه وأتقن محله بالحجارة المنقوشة، ووسعه من جهاته إلى جهة الشرق منها، وجعل له سواري حجارة مثبتة بأعمدة الحديد والرصاص، وسقفه بالساج، وصنع له محرابا.
وقيل: إن مروان هو أول من بنى المحراب. وقيل: عمر بن عبد العزيز في خلافة الوليد - ثم زاد فيه الوليد بن عبد الملك. تولى ذلك عمر بن عبد العزيز، فوسعه وحسنه وبالغ في إتقانه، وعمله بالرخام والساج المذهب. وكان الوليد بعث إلى ملك الروم: أريد أن أبني مسجد نبينا صلى الله عليه وسلم، فأعني فيه. فبعث إليه الفعلة، وثمانين ألف مثقال من الذهب. وأمر الوليد بإدخال حجر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فيه، فاشترى عمر من الدور ما زاد في ثلاث جهات من المسجد. فلما صار إلى القبلة، امتنع عبيد الله بن عبد الله بن عمر من بيع دار حفصة، ودار بينهما الكلام، حتى ابتاعها عمر، على أن له ما بقي منها، وعلى أن يخرجوا من باقيها طريقا إلى السجد، وهي الخوخة التي في المسجد، وجعل عمر للمسجد أربع صوامع في أربعة أركانه، وكانت إحداها مطلة على دار مروان. فلما حج سليمان بن عبد الملك نزل بها، فأطل عليه المؤذن حين الأذان. فأمر بهدمها، وجعل عمر للمسجد محرابا.
ويقال: هو أول من أحدث المحراب. ثم زاد فيه المهدي بن أبي جعفر المنصور. وكان أمرهم بذلك، ولم يقض له، وكتب إليه الحسن بن زيد يرغبه في الزيادة فيه من جهة الشرق، ويقول: إنه إن زيد في شرقيه توسطت الروضة الكريمة المسجد الكريم. فاتهمه أبو جعفر بأنه إنما أراد هدم دار عثمان رضي الله عنه. فكتب إليه: إني قد عرفت الذي أردت، فاكفف عن دار عثمان وأمر أبو جعفر أن يطلل الصحن أيام القيظ بستور تنشر على حبال ممدودة على خشب، تكون في الصحن، لتكن المصلين من الحر، وكان طول المسجد في بناء الوليد مائتي ذراع. فبلغه المهدي إلى ثلاثمائة ذراع، وسوى المقصورة بالأرض، وكانت مرتفعة عنها بمقدار ذراعين، وكتب اسمه على مواضع من المسجد. ثم أمر الملك المنصور قلاوون ببناء دار للوضوء عند باب السلام - فتولى بناءها الأمير الصالح علاء الدين المعروف بالأقمر. وأقامها متسعة الفناء تستدير بها البيوت، وأجرى إليها الماء. وأراد أن يبني بمكة شرفها الله تعالى مثل ذلك، فلم يتم له، فبناه ابنه الملك الناصر بين الصفا والمروة. وسيذكر إن شاء الله. قبلة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قبلة قطع لأنه صلى الله عليه وسلم أقامها. وقيل: أقامها جبريل عليه السلام. وقيل: كان يشير جبريل له إلى سمتها وهو يقيمها. وروي أم جبريل عليه السلام أشار إلى الجبال، فتولضعت فتنحت حتى بدت الكعبة. فكان صلى الله عليه وسلم يبني وهو ينظر إليه عيانا. وبكل اعتبار فهي قبلة قطع وكانت القبلة أول ورود النبي صلى الله عليه وسلم المدينة إلى بيت المقدس. ثم حولت إلى الكعبة بعد ستة عشر شهرا. وقيل: بعد سبعة عشر شهرا.
ذكر المنبر الكريم وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليما كان يخطب إلى جزع نخلة بالمسجد، فلما صنع له المنبر وتحول إليه حن الجذع حنين الناقة إلى حوارها .وروي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليما نزل إليه فالتزمه فسكن. وقال: لو لم ألتزمه لحن إلى يوم القيامة. واختلفت الروايات فيمن صنع المنبر الكريم. فروي أن تميما الداري رضي الله عنه هو الذي صنعه. وقيل: إن غلاما للعباس رضي الله عنه صنعه، وقيل: غلام لأمرأة من الأنصار ورد ذلك في الحديث الصحيح. وصنع من طرفاء الغابة، وقيل من الأثل. وكان له ثلاث درجات. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقعد على علياهن، ويضع رجليه الكريمتين في وسطاهن. فلما ولي أبو بكر الصديق رضي الله عنه قعد على وسطاهن، وجعل رجليه على أولاهن. فلما ولي عمر رضي الله عنه جلس على أولاهن وجعل رجليه على الأرض، وفعل ذلك عثمان رضي الله عنه صدرا من خلافته، ثم ترقى إلى الثالثة. ولما أن صار الأمر إلى معاوية رضي الله عنه أراد نقل المنبر إلى الشام، فضج المسلمون. وعصفت ريح شديدة، وخسفت الشمس، وبدت النجوم نهارا، وأظلمت الأرض، فكان الرجل يصادم الرجل ولا يتبين مسلكه، فلما رأى ذلك معاوية تركه، وزاد فيه ست درجات من أسفله، فبلغ تسع درجات.
ذكر الخطيب والإمام بمسجد رسول الله وكان الإمام بالمسجد الشريف في عهد دخولي إلى المدينة بهاء الدين بن سلامة من كبار أهل مصر، وينوب عنه العالم االصالح الزاهد بقية المشايخ، عز الدين الواسطي، نفع الله به، وكان يخطب قبله ويقضي بالمدينة الشريفة سراج الدين عمر المصري.
<h6 حكاية </h6 يذكر أن سراج الدين هذا أقام في خطة القضاء بالمدينة والخطابة بها نحو أربعين سنة، ثم إنه أراد الخروج بعد ذلك إلى مصر، فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم ثلاث مرات، في كل مرة ينهاه عن الخروج منها، وأخبره باقتراب أجله، فلم ينته عن ذلك وخرج، فمات بموضع يقال له: سويس ، على مسيرة ثلاث من مصر، قبل أن يصل إليها، نعوذ بالله من سوء الخاتمة. وكان ينوب عنه الفقيه أبو عبد الله محمد بن فرحون رحمه الله، وأبناؤه الآن بالمدينة الشريفة: أبو محمد عبد الله مدرس المالكية، ونائب الحكم، وأبو عبد الله محمد وأصلهم من مدينة تونس، ولهم بها حسب وأصالة. وتولي الخطابة والقضاء بالمدينة الشريفة بعد ذلك جمال الدين الأسيوطي من أهل مصر. وكان قبل ذلك قاضيا بحصن الكرك.
ذكر خدام المسجد الشريف والمؤذنين به
وخدام هذا المسجد الشريف وسدنته من الأحابيش وسواهم وهم على هيئات حسان، وصور نظاف، وملابس ظراف، وكبيرهم يعرف بشيخ الخدام، وهو في هيئة الأمراء الكبار، ولهم المرتبات بديار مصر والشام، ويؤتى إليهم بها في كل سنة، ورئيس المؤذنين بالحرم الشريف الإمام المحدث الفاضل جمال الدين المطري، من مطرية قرية بمصر، وولده الفاضل عفيف الدين عبد الله، والشيخ المجاور الصالح أبو عبد الله محمد بن محمد بن محمد الغرناطي المعروف بالتراس قديم المجاورة، وهو الذي جب نفسه خوفا من الفتنة.
<h6 حكاية </h6 يذكر أن أبا عبد الله الغرناطي كان خديما لشيخ يسمى عبد الحميد العجمي، وكان الشيخ حسن الظن به، يطمئن إليه بأهله، ويتركه متى سافر بداره، فسافر مرة، وتركه على عادته بمنزله، فعلقت به زوجة الشيخ عبد الحميد وراودته عن نفسه، فقال: إني أخاف الله ولا أخون من ائتمنني على أهله وماله. فلم تزل تراوده وتعارضه حتى خاف على نفسه الفتنة فجب نفسه، وغشي عليه، ووجده الناس على تلك الحالة، فعالجوه حتى برئ وصار من خدام المسجد الكرام، ومؤذنا به، ورأس الطائفين به. وهو باق بقيد الحياة إلى هذا العهد.
ذكر المجاورين بالمدينة الشريفة
منهم الشيخ الصالح الفاضل أبو العباس أحمد بن محمد مرزوق كثير العبادة والصوم والصلاة بمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليما، صابرا محتسبا، وكان ربما جاور بمكة المعظمة، رأيته بها في سنة ثمان وعشرين، وهو أكثر الناس طوافا وكنت أعجب من ملازمته الطواف مع شدة الحر بالمطاف، والمطاف مفروش بالحجارة السود: وتصير بحر الشمس كأنها الصفائح المحماة. ولقد رأيت السقائين يصبون الماء عليها فما يجاوز الموضع الذي يصب فيه إلا ويلتهب الموضع من حينه. وأكثر الطائفين في ذلك الوقت يلبسون الجوارب وكان أبو العباس بن مرزوق يطوف حافي القدمين، ورأيته يوما يطوف، فأحببت أن أطوف معه فوصلت المطاف، وأردت استلام الحجر الأسود، فلحقني لهب تلك الحجارة، وأردت الرجوع بعد تقبيل الحجر، فما وصلته إلا بعد جهد عظيم، ورجعت فلم أطف ورجعت أجعل نجادي على الأرض وأمشي عليه، حتى بلغت الرواق. وكان في ذلك العهد بمكة وزير غرناطة وكبيرها أبو القاسم محمد ابن محمد بن الفقيه أبي الحسن سهل بن مالك الأزدي. وكان يطوف كل اسبوع سبعين طوافا، ولم يكن يطوف في وقت القائلة لشدة الحر. وكان ابن مرزوق يطوف في شدة القائلة زيادة عليه. ومن المجاورين بالمدينة كرمها الله الشيخ الصالح العابد سعيد المراكشي الكفيف، ومنهم أبو مهدي عيسى بن حزرون المكناسي.
حكاية جاور الشيخ أبو مهدي بمكة سنة ثمان وعشرين، وخرج إلى جبل حراء مع جماعة من المجاورين، فلما صعدوا الجبل ووصلوا لمتعبد النبي الله صلى الله عليه وسلم تسايما ونزلوا عنه، تأخر أبو مهدي عن الجماعة، ورأى طريقا في الجبل، فظنه قصيرا فسلك عليه، ووصل أصحابه إلى أسفل اجبل فانتظروه فلم يأت، فتطلعوا فيما حولهم فلم يروا له أثرا فظنوا أنه سبقهم، فمضوا إلى مكة شرفها الله تعالى، ومضى عيسى في طريقه، فأفضى به إلى جبل آخر، وتاه عن الطريق، وأجهده العطش والحر، وتمزقت نعله، فكان يقطع من ثيابه ويلف على رجليه إلى أن ضعف عن المشي، واستظل بشجرة أم غيلان . فبعث الله أعرابيا على جمل، حتى وقف عليه: فأعلمه بحاله، فأركبه وأوصله إلى مكة، وكان على وسطه هيمان فيه ذهب فسلمه إليه، وأقام نحو شهر لا يستطيع القيام على قدميه، وذهبت جلدتهما ونبتت لهما جلدة أخرى. وقد جرى مثل ذلك لصاحب لي أذكره إن شاء الله. ومن المجاورين بالمدينة الشريفة أبو محمد الشروي من القراء المحسنين، وجاور بمكة في السنة المذكورة. وكان يقرأ بها كتاب الشفاء للقاضي عياض بعد الظهر، وأم في التراويح. وبها من المجاورين الفقيه أبو العباس الفاسي مدرس المالكية بها، وتزوج ببنت الشيخ الصالح شهاب الدين الزرندي.
حكاية: يذكر أن أبا العباس الفاسي تكلم يوما مع بعض الناس فانتهى به الكلام إلى أن تكلم بعظيمة ارتكب فيها بسبب جهله بعلم النسب، وعدم حفظه للسانه مركبا صعبا عفا الله عنه، فقال الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام لم يعقب، فرفع كلامه إلى أمير المدينة طفيل بن منصور بن جماز الحسني ، فأنكر كلامه، وبحق إنكاره، وأراد قتله. فكلم فيه فنفاه عن المدينة. ويذكر أنه بعث من اغتاله وإلى الآن لم يظهر له أثر نعوذ بالله من عثرات اللسان وزلله.
ذكر أمير المدينة الشريفة
كان أمير المدينة كبيش بن منصور بن جماز. وكان قد قتل عمه مقبلا. ويقال: إنه توضأ بدمه. ثم إن كبيشا خرج سنة سبع وعشرين إلى الفلاة في شدة الحر ومعه أصحابه، فأدركتهم القائلة في بعض الأيام، فتفرقوا تحت ظلال الأشجار فما راعهم إلا وأبناء مقبل في جماعة من عبيدهم ينادون: يا لثارات مقبل، فقتلوا كبيش بن منصور صبرا، ولعقوا دمه. وتولى بعده أخوه طفيل بن منصور، الذي ذكرنا أنه نفى أبا العباس الفاسي.
ذكر بعض المشاهد الكريم بخارج المدينة الشريفة
فمنها بقيع الغرقد، وهو بشرقي المدينة المكرمة، ويخرج إليه على باب يعرف بباب البقيع. فأول ما يلقى الخارج إليه على يساره عند خروجه من الباب قبر صفية بنت عبد المطلب رضي الله عنهما، وهي عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليما، وأم الزبير بن العوام رضي الله عنه، وأمامها قبر إمام المدينة أبي عبد الله مالك بن أنس رضي الله عنه، وعليه قبة صغيرة مختصرة البناء، وأمامه قبر السلالة الطاهرة المقدسة النبوية الكريم إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه قبة بيضاء، وعن يمينها تربة عبد الرحمن بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما وهو المعروف بأبي شحمة، وبإزائه قبر عقيل بن أبي طالب رضي الله عنه، وقبر عبد الله بن ذي الجناحين جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، وبإزائهم روضة فيها قبور أمهات المؤمنين رضي الله عنهن، ويليها روضة فيها قبر العباس بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقبر الحسن بن علي بن أبي طالب عليهما السلام، وهي قبة ذاهبة في الهواء بديعة الإحكام، عن يمين الخارج من باب البقيع، ورأس الحسن إلى رجلي العباس عليهما السلام، وقبراهما مرتفعان عن الأرض، متسعان مغشيان بألواح بديعة الالتصاق، مرصعة بصفائح الصفر البديعة العمل. وبالبقيع قبور المهاجرين والأنصار وسائر الصحابة رضي الله عنهم. إلا أنها لا يعرف أكثرها. وفي آخر البقيع قبر أمير المؤمنين أبي عمر عثمان بن عفان رضي الله عنه، وعليه قبة كبيرة وعلى مقربة منه قبر فاطمة بنت أسد بن هاشم أم علي بن أبي طالب رضي الله عنها وعن ابنها.
ومن المشاهد الكريمة قباء، وهو قبلي المدينة، على نحو ميلين منها والطريق بينهما في حدائق النخل، وبه المسجد الذي أسس على التقوى والرضوان. وهو مسجد مربع فيه صومعة بيضاء طويلة تظهر على البعد وفي وسطه مبرك الناقة بالنبي صلى الله عليه وسلم، يتبرك الناس بالصلاة فيه، وفي الجهة القبلية من صحنه محراب على مصطبة، وهو أول موضع ركع فيه النبي صلى الله عليه وسلم. وفي قبلي المسجد دار كانت لأبي أيوب الأنصاري. ويليها دور تنسب لأبي بكر وعمر وفاطمة وعائشة رضي الله عنهم. وبإزائه بئر أريس، وهي التي عاد ماؤها عذبا لما تفل فيه النبي صلى الله عليه وسلم، بعد أن كان أجاجا. وفيها وقع الخاتم الكريم من عثمان رضي الله عنه.
ومن المشاهد فيه حجر الزيوت بخارج المدينة الشريفة. يقال: إن الزيت رشح من حجر هنالك للنبي صلى الله عليه وسلم. وإلى جهة الشمال منه بئر بضاعة. بإزائها جبل الشيطان، حيث صرخ يوم أحد وقال: قد قتلت نبيكم. وعلى شفير الخندق الذي حفره رسول الله صلى الله عليه وسلم عند تخرب الأحزاب، حصن خرب يعرف بحصن العزاب. يقال: إن عمر بناه لعزاب المدينة. وأمامه إلى جهة الغرب بئر رومة التي اشترى أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه نصفها بعشرين ألفا ، ومن المشاهد الكريمة أحد، وهو الجبل المبارك الذي قال فيه رسول اله صلى الله عليه وسلم تسليما: إن أحدا جبل يحبنا ونحبه وهو بجوار المدينة الشريفة، على نحو فرسخ منها، وبإزائه الشهداء المكرمون رضي الله عنهم. وهنالك قبر حمزة عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنه، وحوله الشهداء المستشهدون في أحد رضي الله عنهم، وقبورهم لقبلي أحد. وفي طريق أحد مسجد ينسب لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، ومسجد ينسب إلى سلمان الفارسي رضي الله عنه، ومسجد الفتح حيث أنزلت سورة الفتح على رسوله صلى الله عليه وسلم. وكانت إقامتنا بالمدينة الشريفة في هذه الوجهة أربعة أيام: وفي كل ليلة نبيت بالمسجد الكريم، والناس قد حلقوا في صحنه حلقا، وأوقدوا الشمع الكبير. وبينهم ربعات القرآن الكريم يتلونه، وبعضهم يذكرون الله، وبعضهم في مشاهدة التربة الطاهرة، زادها الله طيبا، والحداة بكل جانب يترنمون بمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهكذا دأب الناس في تلك الليالي المباركة، ويجودون بالصدقات الكثيرة على المجاورين والمحتاجين. وكان في صحبتي في هذه الوجهة من الشام إلى المدينة الشريفة رجل من أهلها فاضل يعرف بمنصور بن شكل، وأضافني بها. واجتمعنا بعد ذلك بحلب وبخارى. وكان في صحبتي أيضا قاضي الزيدية شرف الدين قاسم بن شنان، وصحبني أيضا أحد الصلحاء الفقراء، من أهل غرناطة، يسمى بعلي بن حجر الأموي.
حكاية لما وصلنا إلى المدينة كرمها الله، على ساكنها أفضل الصلاة وأزكى السلام، ذكر لي علي بن حجر المذكور أنه رأى تلك الليلة في النوم قائلا يقول له: اسمع مني واحفظ عني:
هنيئا لـكـم يا زائرين ضـريحـه أمنتم به يوم المعاد من الـرجـس
وصلتم إلى قبر الحبـيب بـطـيبة فطوبى لمن يضحي بطيبة أو يمسى وجاور هذا الرجل بعد صحبه بالمدينة. ثم رحل إلى مدينة دهلي قاعدة بلاد الهند، في سنة ثلاث وأربعين، فنزل في جواري. وذكرت حكاية رؤياه بين يدي ملك الهند، فأمر بإحضاره، فحضر بين يديه، وحكى له ذلك، فأعجبه واستحسنه، وقال له كلاما جميلا بالفارسية، وأمر بإنزاله، وأعطاه ثلاثمائة تنكة من ذهب. ووزن التنكة من دنانير المغرب ديناران ونصف دينار، وأعطاه فرسا محلى بالسرج واللجام، وخلعة، وعين له مرتبا في كل يوم. وكان هنالك فقيه طيب من أهل غرناطة، ومولده ببجاية، يعرف هنالك بجمال الدين المغربي. فصحبه علي بن حجر المذكور، وواعده على أن يزوجه بنته. وأنزله بدويرة خارج داره، واشترى جارية غلاما. وكان يترك الدنانير في مفرش ثيابه ولا يطمئن بها لأحد. فاتفق الغلام والجارية على أخذ ذلك الذهب. وأخذاه وهربا. فلما أتى الدار لم يجد لهما أثرا، ولا للذهب. فامتنع عن الطعام والشراب، واشتد به المرض أسفا على ما جرى عليه، فعرضت قضيته بيد يدي الملك، فأمر أن يخلف له ذلك، وبعث إليه من يعلمه بذاك، فوجدوه قد مات رحمه الله تعالى انتهى 00

  #2  
قديم 2008-02-11, 02:07 PM
مكشات 2007 مكشات 2007 غير متواجد حالياً
عـضـو فـعـال
 
تاريخ التسجيل: Nov 2007
الدولة: السعوديه
المشاركات: 191
جنس العضو: ذكر
مكشات 2007 is on a distinguished road
افتراضي

ذكر مدينة مكة المعظمة (1)
وهي مدينة كبيرة متصلة البنيان مستطيلة، في بطن واد تحف به الجبال، فلا يراها قاصدها حتى يصل إليها. وتلك الجبال الملطة عليها ليست بمفرطة الشموخ. والأخشبان من جبالها هما جبل أبي قبيس، وهو في جهة الجنوب والشرق منها، وجبل قعيقعان، وهو في جهة الغرب منها، وفي الشمال منها الجبل الأحمر. ومن جهة أبي قبيس أجياد الأكبر، وأجياد الأصغر، وهما شعبان والخندمة، وهي جبل، وستذكر. والمناسك كلها: منى وعرفة والمزدلفة بشرقي مكة شرفها الله. ولمكة من الأبواب ثلاثة: باب المعلى بأعلاها، وباب الشبيكة من أسفلها، ويعرف أيضا بباب العمرة، وهو إلى جهة المغرب، وعليه طريق المدينة الشريفة، ومصر والشام وجدة. ومنه يتوجه إلى التنعيم، وسيذكر ذلك،وباب المسفل، وهو من جهة الجنوب، ومنه دخل خالد بن الوليد رضي الله عنه يوم فتح مكة شرفها الله، كما أخبر الله في كتابه العزيز حاكيا عن نبيه الخليل بواد غير ذي زرع. ولكن سبقت لها الدعوة المباركة، فكل طرفة تجلب إليها، وثمرات كل شيء تجبى لها. ولقد أكلت بها من الفواكه العنب والتين والخوخ والرطب ما لا نظير له في الدنيا، وكذلك البطيخ المجلوب إليها لا يماثله سواه طيبا وحلاوة، واللحوم بها سمان لذيذات الطعوم. وكل ما يفترق في البلاد من السلع، فيها اجتماعه. وتجلب لها الفواكه والخضر من الطائف ووادي نخلة وبطن مر، لطفا من الله بسكان حرمه الأمين ومجاوري بيته العتيق.
ذكر المسجد الحرام شرفه الله وكرمه
والمسجد الحرام في وسط البلد. وهو متسع الساحة. طوله من شرق إلى غرب أزيد من أربعمائة ذراع، حكى ذلك الأزرقي، وعرضه يقرب من ذلك. والكعبة العظمى في وسطه. ومنظره بديع. ومرآه جميل. لا يتعاطى اللسان وصف بدائعه، ولا يحيط الواصف بحسن كماله. وارتفاع حيطانه نحو عشرين ذراعا؛ وسقفه على أعمدة طوال مصطفة ثلاثة صفوف، بأتقن صناعة وأجملها. وقد انتظمت بلاطاته الثلاثة انتظاما عجيبا كأنها بلاط واحد وعدد سواريه الرخامية أربعمائة وإحدى وتسعون سارية ما عدا الجصية التي في دار الندرة المزيدة في الحرم، وهي داخلة في البلاط الآخذ في الشمال. ويقابلها المقام مع الركن العراقي. وفضاؤها متصل، يدخل من هذا البلاط إليه، ويتصل بجدار هذا البلاط مساطب تحت قسي حنايا يجلس بها المقرئون والنساخون والخياطون. وفي جدار البلاط الذي يقابله مساطب تماثلها. وسائر البلاطات تحت جدرانها مساطب بدون حنايا. وعند باب إبراهيم مدخل من البلاط الغربي فيه سواري جصية. وللخليفة المهدي ابن الخليفة أبي جعفر المنصور رضي الله عنهما آثار كريمة في توسيع المسجد الحرام وإحكام بنائه. وفي أعلى جدار البلاط الغربي مكتوب أمر عبد الله محمد المهدي أمير المؤمنين أصلحه الله بتوسعة المسجد الحرام لحاج بيت الله وعمارته في سنة سبع وستين ومائة.
ذكر الكعبة المعظمة الشريفة زادها الله تعظيما وتكريما
والكعبة مائلة في وسط المسجد، وهي بنية مربعة ارتفاعها في الهواء من الجهات الثلاث ثمان وعشرون ذراعا، ومن الجهة الرابعة التي بين الحجر الأسود والركن اليماني تسع وعشرون ذراعا، وعرض صفحتها التي من الركن العراقي إلى الحجر الأسود أربعة وخمسون شبرا وكذلك عرض الصفحة التي تقابلها من الركن اليماني إلى الركن الشامي، وعرض صفحتها التي من الركن العراقي إلى الركن الشامي من داخل الحجر ثمانية وأربعون شبرا، وكذلك عرض الصفحة التي تقابلها من الركن الشامي إلى الركن العراقي، وأما خارج الحجر فإنه مائة وعشرون شبرا والطواف إنما هو خارج الحجر وبناؤها بالحجر الصم السمر، وقد ألصقت بأبدع الإلصاق وأحكمه وأشده، فلا تغيرها الأيام، ولا تؤثر فيها الأزمان وباب الكعبة المعظمة في الصفح الذي بين الحجر الأسود والركن العراقي، وبينه وبين الحجر الأسود عشرة أشبار، وذلك الموضع هو المسمى بالملتزم، حيث يستجاب الدعاء. وارتفاع الباب عن الأرض أحد عشر شبرا ونصف شبر وسعته ثمانية أشبار، وطوله ثلاثة عشر شبرا وعرض الحائط الذي ينطوي عليه خمسة أشبار، وهو مصفح بصفائح الفضة، بديع الصنعة وعضادتاه وعتبته العليا مصفحات بالفضة، وله نقارتان كبيرتان من فضة عليهما قفل، ويفتح الباب الكريم في كل يوم جمعة بعد الصلاة، ويفتح في يوم مولد النبي صلى الله عليه وسلم ورسمهم في فتحة أنم يضعوا كرسيا شبه المنبر، له درج وقوائم خشب، لها أربع بكرات يجري الكرسي عليها، ويلصقونه إلى جدار الكعبة الشريفة، فيكون درجه الأعلى متصلا بالعتبة الكريمة، ثم يصعد كبير الشيبين وبيده المفتاح الكريم ومعه السدنة، فيمسكون الستر المسبل على باب الكعبة المسمى بالبرقع، بخلال ما يفتح رئيسهم الباب، فإذا فتحه قبل العتبة الشريفة، ودخل البيت وحده، وسد الباب، وأقام قدر ما يركع ركعتين، ثم يدخل سائر الشيبين، ويسدون الباب أيضا، ويركعون، ثم يفتح الباب، ويبادر الناس بالدخول، وفي أثناء ذلك يقفون مستقبلين الباب الكريم بأبصار خاشعة وقلوب ضارعة وأيد مبسوطة إلى الله، فإذا فتح كبروا ونادوا: اللهم افتح لنا أبواب رحمتك ومغفرتك يا أرحم الراحمين وداخل الكعبة الشريفة مفروش بالرخام المجزع، وحيطانه كذلك وله أعمدة ثلاثة طوال مفرطة الطول من خشب الساج، بين كل عمود منها وبين ألاخر أربع خطا وهي متوسطة في الفضاء داخل الكعبة الشريفة، يقابل الأوسط منها نصف عرض الصفح الذي بين الركنين العراقي والشامي وستور الكعبة الشريفة من الحرير الأسود، مكتوب فيها بالأبيض، وهي تلألأ عليها نورا وإشراقا، وتكسو جميعها من الأعلى إلى الأرض. ومن عجائب الآيات في الكعبة الشريفة أن بابها يفتح، والحرم غاص بأمم لا يحصيها إلا الله الذي خلقهم ورزقهم، فيدخلونها أجمعين ولا تضيق عنهم، ومن عجائبها أنها لا تخلو عن طائف أبدا ليلا ولا نهارا، ولم يذكر أحد أنه رآها قط دون طائف. ومن عجائبها أن حمام مكة وسواه من الطير، لا ينزل عليها ولا يعلوها في الطيران وتجد الحمام يطير على أعلى الحرم كله فإذا حاذى الكعبة الشريفة عرج عنها إلى إحدى الجهات ولم يعلها ويقال لا ينزل عليها طائر إلا إذا كان به مرض فإما أن يموت لحينه أو يبرأ من مرضه فسبحان االذي خصها بالتشريف والتكريم وجعل لها المهابة والتعظيم.
ذكر الميزاب المبارك والميزاب في اعلى الصفح الذي على الحجر، وهو من الذهب، وسعته شبر واحد، وهو بارز بمقدار ذراعين. والموضع الذي تحت الميزاب مظنة استجابة الدعاء. وتحت الميزاب في الحجر هو قبر إسيماعيل عليه السلام، وعليه رخامة خضراء مستطيلة على شكل محراب، متصلة برخامة خضراء مستديرة، وكلتاهما سعتها مقدار شبر، وكلتاهما غريبة الشكل رائقة المنظر. وإلى جانبه مما يلي الركن العراقي قبر أمه هاجر عليها السلام، وعلامته رخامة خضراء مستديرة سعتها مقدار شبر ونصف وبين القبرين سبعة أشبار.
ذكر الحجر الأسود
وأما الحجر الأسود فارتفاعه عن الأرض ستة أشبار فالطويل من الناس يتطامن لتقبيله، والصغير يتطاول إليه وهو ملصق في الركن الذي إلى جهة المشرق، وسعته ثلثا شبر، وطوله شبر وعقد، ولا يعلم قدر ما دخل منه في الركن وفيه أربع قطع ملصقة ويقال: إن القرمطي لعنه الله كسره وقيل: إن الذي كسره سواه، ضربه بدبوس فكسره، وتبادر الناس إلى قتله وقتل بسببه جماعة من المغاربة. وجوانب الحجر مشدودة بصفيحة من فضة، يلوح بياضها على سواد الحجر الكريم، فتنجلي منه العيون حسنا باهرا، ولتقبيله لذة يتنعم بها الفم، ويود لاثمه أن لا يفارق لثمه، خاصية مودعة فيه، وعناية ربانية به وكفى قول النبي صلى الله عليه وسلم إنه يمين الله في أرضه ، نفعنا الله باستلامه ومصافحته، وأوفد عليه كل شيق إليه. وفي القطعة الصحيحة من الحجر الأسود، مما يلي جانبه الموالي ليمين مستلمه، نقطة بيضاء صغيرة مشرقة، كأنها خال في تلك الصحيفة البهية وترى الناس إذا طافوا بها يتساقط بعضهم على بعض ازدحاما على تقبيله فقلما يتمكن أحد من ذلك إلا بعد المزاحمة الشديدة، وكذلك يصنعون عند دخول الحرم، ومن عند الحجر الأسود ابتداء الطواف وهو أول الأركان التي يلقاها الطائف، فإذا استلمه تقهقر عنه قليلا وجعل الكعبة الشريفة عن يساره، ومضى في طوافه، ثم يلقى بعده الركن العراقي، وهو إلى جهة الشمال، ثم يلقى الركن الشامي، وهو إلى جهة الغرب، ثم يلقى الركن اليماني، وهو إلى جهة الجنوب، ثم يعود إلى الحجر الأسود، وهو إلى جهة الشرق.
ذكر المقام الكريم إعلم أن بين باب الكعبة شرفها الله وبين الركن العراقي موضعا طوله اثنا عشر شبرا وعرضه نحو النصف من ذلك، وارتفاعه نحو شبرين وهو موضع المقام في مدة إبراهيم عليه السلام ثم صرفه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الموضع الذي هو الآن مصلى، وبقي ذلك الموضع شبه الحوض، وإليه ينصب ماء البيت الحرام إذ غسل، وهو موضع مبارك يزدحم الناس للصلاة فيه. وموضع المقام الشريف يقابل ما بين الركن العراقي والباب الشريف، وهو إلى الباب أميل، وعليه قبة تحتها اشباك حديد، متجاف عن المقام الشريف قدر ما تصل أصابع الإنسان إذا أدخل يده من ذلك الشباك إلى الصندوق، والشباك مقفل ومن ورائه موضع محوز قد جعل مصلى لركعتي الطواف. وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل المسجد أتى البيت فطاف به سبعا، ثم أتى المقام فقرأ: واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وركع خلفه ركعتين وخلف المقام مصلى إمام الشافعية في الحطيم الذي هنالك.
ذكر الحجر والمطاف ودور جدار الحجر تسع وعشرون خطوة، وهي أربعة وتسعون شبرا من داخل الدائرة، وهو بالرخام البديع المجزع المحكم الإلصاق، وارتفاعه خمسة أشبار ونصف شبر، وسعته أربعة أشبار ونصف شبر. وداخل الحجر بلاط واسع مفروش بالرخام المنظم المعجز الصنعة البديع الإتقان. وبين جدار الكعبة الشريفة الذي تحت الميزاب وبين ما يقابله من جدار الحجر على خط استواء أربعون شبرا، وللحجر مدخلان أحدهما بينه وبين الركن العراقي، وسعته ستة أذرع، وهذا الموضع هو الذي تركته قريش من البيت حين بنته، كما جاءت الآثار الصحاح، والمدخل الآخر عند الركن الشامي، وسعته أيضا ستة أذرع وبين المدخلين ثمانية وأبعون شبرا وموضع الطواف مفروش بالحجارة السود محكمة الإلصاق، وقد اتسعت عن البيت بمقدار تسع خطا إلا في الجهة التي تقابل المقام الشريف، فإنها امتدت إليه حتى أحاطت به وسائر الحرم مع البلاطات مفروش برمل أبيض وطواف النساء في آخر الحجارة المفروشة.
ذكر زمزم
وقبة بئر زمزم تقابل الحجر الأسود وبينهما أربع وعشرون خطوة والمقام الشريف عن يمين القبة. ومن ركنها إليه عشر خطا. وداخل القبة مفروش بالرخام الأبيض، وتنور البئر المباركة في وسط القبة، مائلا إلى الجدار المقابل للكعبة الشريفة. وهو من الرخام البديع الإلصاق مفروغ بالرصاص. ودوره أربعون شبرا، وارتفاعه أربعة أشبار ونصف شبر، وعمق البئر إحدى عشرة قامة وهم يذكرون أن ماءها يتزايد في كل ليلة جمعة وباب القبة إلى جهة الشرق وقد استدارات بداخل سقاية سعتها شبر، وعمقها مثل لك، وارتفاعها عن الأرض نحو خمسة أشبار، تملأ ماء للوضوء، وحولها مسطبة يقعد الناس عليها للوضوء ويلي قبة زمزم قبة الشراب المنسوبة إلى العباس رضي الله عنه، وبابها إلى جهة الشمال. وهي الآن يجعل بها ماء زمزم في قلال يسمونها الدوارق، وكل دورق له مقبض واحد وتترك بها ليبرد فيها الماء، فيشربه الناس وبها اختزان المصاحف الشريفة، والكتب التي للحرم الشريف وبها خزان تحتوي على تابوت مبسوط متسع، فيه مصحف كريم بخط زيد بن ثابت رضي الله عنه، منتسخ سنة ثماني عشرة من وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليما. وأهل مكة إذا أصابهم قحط أو شدة أخرجوا هذا المصحف الشريف، وفتحوا باب الكعبة، ووضعوه على العتبة الشريفة، ووضعوه في مقام إبراهيم عليه وسلم، واجتمع الناس كاشفين رؤوسهم، داعين متضرعين متوسلين بالمصحف العزيز والمقام الشريف، فلا ينفصلون إلا وقد تداركهم الله برحمته، وتغمدهم بلطفه. ويلي قبة العباس رضي الله تعالى عنه على انحراف منها القبة المعروفة بقبة اليهودية.
ذكر أبواب المسجد الحرام وما دار به من المشاهد الشريفة وأبواب المسجد الحرام شرفه الله تعالى تسعة عشر بابا، وأكثرها مفتحة على أبواب كثيرة، فمنها باب الصفا، وهو مفتح على خمسة أبواب، وكان قديما يعرف بباب بني مخزوم، وهو أكبر أبواب المسجد، ومنه يخرج إلى المسعى، ويستحب للوافد على مكة أن يدخل المسجد الحرام شرفه الله من باب بني شيبة، ويخرج بعد طوافه من باب الصفا جاعلا طريقه بين الأسطوانتين اللتين اقامهما أمير المؤمنين المهدي رحمه الله، علما على طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصفا، ومنها باب أجياد الأصغر مفتح على بابين ومنها باب الخياطين مفتح على بابين ومنها باب العباس رضي الله عنه مفتح على ثلاثة أبواب، ومنها باب النبي صلى الله عليه وسلم مفتح على بابين، ومنها باب بني شيبة، وهو في ركن الجدار الشرقي من جهة الشمال، أمام باب الكعبة الشريفة متياسرا، وهو مفتح على ثلاثة أبواب، وهو باب بني عبد شمس، ومنه كان دخول الخلفاء، ومنها باب صغير إزاء باب بني شيبة لا اسم له، وقيل: يسمى باب الرباط، لأنه يدخل منه لرباط السدرة، ومنها باب الندوة ويسمى بذلك ثلاثة أبواب: اثنان منتظمان، والثالث في الركن الغربي من دار الندوة، ودار الندوة قد جعلت مسجدا شارعا في الحرم مضافا إليه، وهي تقابل الميزاب، ومنها باب صغير لدار العجلة محدث، ومنها باب السدرة واحد، وباب العمرة واحد، وهو من أجمل أبواب الحرم، وباب إبراهيم واحد، والناس مختلفون في نسبته، فبعضهم ينسبه إلى إبراهيم الخليل عليه السلام، والصحيح أنه منسوب إلى إبراهيم الخوزي من الأعاجم، وباب الحزورة مفتح على بابين، وباب ثالث ينسب إليه مفتح على بابين، ويتصل لباب الصفا ومن الناس من ينسب البابين من هذه الأربعة المنسوبة لأجياد إلى الدقاقين.
وصوامع المسجد الحرام خمس: إحداهن على ركن أبي قبيس عند باب الصفا، والأخرى على ركن باب بني شيبة، والثالثة على باب دار الندوة، والرابعة على ركن باب السدرة، والخامسة على ركن أجياد. وبمقربة من باب العمرة مدرسة عمرها السلطان المعظم يوسف بن رسول ملك اليمن المعروف بالملك المظفر التي تنسب إليه الدراهم المظفرية باليمن، وهو كان يكسو الكعبة، إلى أن غلبه على ذلك الملك المنصور قلاوون - وبخارج باب إبراهيم زاوية كبيرة فيها دار إمام المالكية الصالح أبي عبد الله محمد بن عبد الرحمن المدعو بخليل وعلى باب إبراهيم قبة عظيمة مفرطة السمو، قد صنع في داخلها من غرائب صنع الجص ما يعجز عنه الوصف. وبإزاء هذا الباب عن يمين الداخل إليه كان يقعد الشيخ العابد جلال الدين محمد بن أحمد الأفشهري، وخارج باب إبراهيم بئر تنسب كنسبته، وعنده أيضا دار الشيخ الصالح دانيال العجمي الذي كانت صدقات العراق في أيام السلطان أبي سعيد تأتي على يديه. وبمقربة منه رباط الموفق، وهو من أحسن الرباطات، سكنته أيام مجاورتي بمكة المعظمة. وكان به في ذلك العهد الشيخ الصالح الطيار سعادة الجراني، ودخل يوما إلى بيته بعد صلاة العصر فوجد ساجدا مستقبل الكعبة الشريفة ميتا من غير مرض كان به رضي الله عنه وسكن به الشيخ الصالح شمس الدين محمد الشامي نحوا من أربعين سنة. وسكن به الشيخ الصالح شعيب المغربي من كبار الصالحين دخلت عليه يوما فلم يقع بصري في بيته على شيء سوى حصير فقلت له في ذلك فقال لي: أستر على ما رأيت.
وحول الحرم الشريف دور كثيرة لها مناظر وسطوح يخرج منها إلى سطح الحرم، وأهلها في مشاهدة البيت الشريف على الدوام، ودور لها أبواب تفضي إلى الحرم، منها دار زبيدة زوجة الرشيد أمير المؤمنين، ومنها دار العجلة، ودار الشرابي وسواها. ومن المشاهد المقدسة بمقربة من المسجد الحرام قبة الوحي وهي في دار خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها بمقربة من باب الرسول صلى الله عليه وسلم وفي البيت قبة صغيرة حيث ولدت فاطمة عليها السلام، وبمقربة منها دار أبي بكر الصديق رضي الله عنه ويقابلها جدار مبارك فيه حجر مبارك بارز، طرفه من الحائط يستلمه الناس ويقال: إنه كان يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم ويذكر ان النبي صلى الله عليه وسلم سأل عن رجل فنطق ذلك الحجر، وقال: يا رسول الله إنه ليس بحاضر.
ذكر الصفا والمروة ومن باب الصفا الذي هو من أبواب المسجد الحرام إلى الصفا ست وسبعون خطوة، وسعة الصفا سبع عشرة خطوة، وله اربع عشرة درجة علياهن كأنها مسطبة، وبين الصفا والمروة أربعمائة وثلاث وتسعون خطوة، منها من الصفا إلى الميل الأخضر ثلاث وتسعون خطوة، ومن الميل الأخضر إلى الميلين الأخضرين خمس وسبعون خطوة، ومن الميلين الأخضرين إلى المروة ثلاثمائة وخمس وعشرون خطوة. وللمروة خمس درجات، وهي ذات قوس واحد كبير وسعة المروة سبع عشرة خطوة. والميل الأخضر هو سارية خضراء مثبتة مع ركن الصومعة التي على الركن الشرقي من الحرم عن يسار الساعي إلى المروة، والميلان الأخضران هما ساريتان خضراوان إزاء باب علي من أبواب الحرم، أحدهما في جدار الحرم عن يسار الخارج من الباب، والأخرى تقابلها، وبين الميل الأخضر والميلين الأخضرين يكون الرمل ذاهبا وعائدا، وبين الصفا والمروة مسيل فيه سوق عظيمة، يباع فيها الحبوب واللحم والتمر والسمن وسواها من الفواكه. والساعون بين الصفا والمروة لا يكادون يخلصون لازدحام الناس على حوانيت الباعة، وليس بمكة سوق منتظمة سوى هذه إلا البزازون والعطارون عند باب شيبة وبين الصفا والمروة دار العباس رضي الله عنه. وهي الآن رباط يقطنه المجاورون عمره الملك الناصر رحمه الله، وبنى أيضا دار وضوء فيما بين الصفا والمروة سنة ثمان وعشرين، وجعل لها بابين أحدهما في السوق المذكور والآخر في العطارين. وعليها ربع يسكنه خدامها، وتولى بناء ذلك الأمير علاء الدين بن هلال، وعن يمين المروة دار أمير مكة سيف الدين عطيفة بن أبي نمي وسنذكره.
ذكر الجبانة المباركة وجبانة مكة خارجة باب المعلى، ويعرف ذلك الموضع بالحجون وإياه عنى الحارث ابن مضاض الجرهمي بقوله:
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا أنيس ولم يسمر بمـكة سـامـر
بلى نحن كنا أهلهـا فـأبـادنـا صروف الليالي والجدود العواثر وبهذه الجبانة مدفن الجم الغفير من الصحابة والتابعين والعلماء والصالحين والأولياء، إلا أن مشاهدهم دثرت، وذهب عن أهل مكة علمها فلا يعرف منها إلا القليل، فمن المعروف منها قبر أم المرمنين، ووزير سيد المرسلين خديجة بنت خويلد أم أولاد النبي صلى الله عليه وسلم، كلهم ما عدا إبراهيم، وجدة السبطين الكريمين صلوات الله وسلامه على النبي صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين. وبمقربة منه قبر الخليفة أمير المؤمنين أبي جعفر المنصور عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس رضي الله عنهم أجمعين، وفيها الموضع الذي صلب فيه عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما. وكان به بنية هدمها أهل الطائف غيرة منهم لما كان يلحق حجاجهم المبير ، من اللعن وعن يمين مستقبل الجبانة مسجد خراب، يقال إنه المسجد الذي بايعت الجن فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى هذه الجبانة طريق الصاعد إلى عرفات وطريق الذاهب إلى الطائف وإلى العراق.
ذكر بعض المشاهد خارج مكة
فمنها الحجون وقد ذكرناه، ويقال أيضا: إن الحجون هو الجبل المطل على الجبانة ومنها المحصب، وهو أيضا الأبطح، وهو يلي الجبانة المذكورة، وفيه خيف بني كنانة الذي نزل به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنها ذو الطوى وهو واد يهبط على قبور المهاجرين التي بالحصحاص دون ثنية كداء، ويخرج منه إلى الأعلام الموضوعة حجزا بين الحل والحرام. وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنه إذا قدم مكة شرفها الله تعالى يبيت بذي طوى ثم يعتسل منه ويغدو إلى مكة، ويذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك. ومنها ثنية كدي بضم الكاف ، وهي بأعلى مكة، ومنها دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع إلى مكة. ومنها ثنية كداء بفتح الكاف ، ويقال لها الثنية البيضاء، وهي بأسفل مكة، ومنها خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الوداع، وهي بين جبيلين. وفي مضيقها كوم حجارة موضوع على الطريق، وكل من يمر به يرجمه بحجر. ويقال: إنه قبر أبي لهب وزوجه حمالة الحطب. وبين هذه الثنية وبين مكة بسيط سهل ينزله الركب إذا صدروا عن منى، وبمقربة من هذا الموضع على نحو ميل من مكة شرفها الله مسجد بإزائه حجر موضوع على الطريق كأنه مصطبة يعلوه حجر آخر، كان فيه نقش فدثر رسمه. يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قعد بذلك الموضع مستريحا عند مجيئه من عمرته. فيتبرك الناس بتقبيله ويستندون إليه. ومنها التنعيم، وهو على فرسخ من مكة، ومنه يعتمر أهل مكة، وهو أدنى الحل إلى الحرام، ومنه اعتمرت أم المرمنين عائشة رضي الله عنها حين بعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع مع أخيها عبد الرحمن رضي الله عنه، وأمره أن يعمرها من التنعيم. وبنيت هنالك مساجد ثلاثة على الطريق تنسب كلها إلى عائشة رضي الله عنها. وطريق التنعيم طريق فسيح، والناس يتحرون كنسه في كل يوم رغبة في الأجر والثواب. لأن من المعتمرين من يمشي فيه حافيا. وفي هذا الطريق الآبار العذبة التي تسمى الشبيكة، ومنها الزاهر، وهو على نحو ميلين من مكة، على طريق التنعيم، وهو موضع على جانبي الطريق فيه أثر دور وبساتين وأسواق.
وعلى جانب الطريق دكان مستطيل تصف عليه كيزان الشرب وأواني الوضوء، يملأها خديم ذلك الموضع من آبار الزاهر، وهي بعيدة القعر جدا. والخديم من الفقراء المجاورين وأهل الخير يعينونه على ذلك لما فيه من المرفقة للمعتمرين من الغسل والشرب والوضوء، وذو طوى يتصل بالزاهر.
ذكر الجبال المطيفة بمكة
فمنها جبل أبي قبيس وهو في جهة الجنوب والشسرق من مكة حرسها الله، وهو أحد الأخشبين، وأدنى الجبال من مكة شرفها الله، ويقابل ركن الحجر الأسود. وبأعلاه مسجد وأثر رباط وعمارة. وكان الملك الظاهر رحمه الله أراد أن يعمره. وهو مطل على الحرم الشريف، وعلى جميع البلد. ومنه يظهر حسن مكة شرفها الله وجمال الحرم واتساعه والكعبة المعظمة. ويذكر أن جبل أبي قبيس هو أول جبل خلقه الله، وفيه استودع الحجر زمان الطوفان. وكانت قريش تسمية الأمين لأنه أدى الحجر الذي استودع فيه إلى الخليل إبراهيم عليه السلام. ويقال: إن قبر آدم عليه السلام به. وفي جبل أبي قبيس موضع موقف النبي صلى الله عليه وسلم حين انشق له القمر. ومنها قعيقان، وهو أحد الأخشبين، ومنها الجبل الأحمر، وهو في جهة الشمال من مكة شرفها الله، ومنها الخندمة وهو جبل عند الشعبين المعروفين بأجياد الأكبر وأجياد الأصغر، ومنها جبل الطير وهو على أربعة عن جهتي طريق التنعيم، يقال إنها الجبال التي وضع عليها الخليل عليه السلام أجزاء الطير ثم دعاها حسبما نص الله في كتابه العزيز، عليه أعلام من حجارة، ومنها جبل حراء، وهو في الشمال من مكة شرفها الله تعالى على نحو فرسخ منها، وهو مشرف على منى، ذاهب في الهواء عالي القنة. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعبد فيه كثيرا قبل المبعث، وفيه أتاه الحق من ربه وبدأ الوحي، وهو الذي اهتز تحت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم: إثبت فما عليك إلا نبي وصديق وشهيد ، واختلف فيكمن كان معه يومئذ. وروي أن العشرة كانوا معه.
وقد روي أيضا أن جبل ثبير اهتز تحته أيضا، ومنها جبل ثور، وهو على قدر فرسخ من مكة شرفها الله تعالى على طريق اليمن، وفيه الغار الذي أوى إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خروجه مهاجرا من مكة شرفها الله، ومعه الصديق رضي الله عنه، حسبما ورد في الكتاب العزيز. ذكر الأزرقي في كتابه: أن الجبل المذكور نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إلي يا محمد إلي إلي، فقد أويت قبلك سبعين نبيا. فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم الغار واطمأن به وصاحبه الصديق معه، نسجت العنكبوت من حينها على باب الغار، وصنعت الحمامة عشا وفرخت فيه بإذن الله تعالى، فانتهى المشركون ومعهم قصاص الأثر إلى الغار، فقالوا ها هنا انقطع الأثر ورأوا العنكبوت قد نسج على فم الغار والحمام مفرخة، فقالوا: ما دخل أحد هنا، وانصرفوا. فقال الصديق: يا رسول الله لو لجوا علينا منه، قال: كنا نخرج من هنا. وأشار بيده المباركة إلى الجانب الآخر ولم يكن فيه باب فانفتح فيه باب بقدرة الملك الوهاب .
والناس يقصدون زيارة هذا الغار المبارك، فيرومون دخوله من الباب الذي دخل منه النبي صلى الله عليه وسلم تبركا بذلك. فمنهم من يتأتى له، ومنهم من لا يتأتى له وينشب فيه، حتى يتناول بالجذب العنيف، ومن الناس من يصلي أمامه ولا يدخله. وأهل تلك البلاد يقولون: إنه من كان لرشده دخله، ومن كان لزينة لم يقدر على دخوله. ولهذا يتحاماه كثير من الناس لأنه مخجل فاضح. قال ابن جزي: أخبرني بعض أشياخنا الحجاج الأكياس أن سبب صعوبة الدخول إليه هو أن بداخله مما يلي هذا الشق الذي يدخل منه حجرا كبيرا معترضا. فمن دخل من ذلك الشق منبطحا على وجهه وصل راسه إلى ذلك الحجر، فلم يمكنه التولج، ولا يمكنه أن ينطوي إلى العلو، ووجهه وصدره يليان الأرض. فذلك هو الذي ينشب ولا يخلص إلا بعد الجهد والجذب إلى خارج ومن دخل منه مستلقيا على ظهره أمكنه، لأنه إذا وصل رأسه إلى الحجر المعترض رفع رأسه، واستوى قاعدا، فكان ظهره مستندا إلى الحجر المعترض وأوسطه في الشق ورجلاه من خارج الغار ثم يقوم قائما بداخل الغار.
حكاية
ومما اتفق بهذا الجبل لصاحبين من أصحابي: أحدهما الفقيه المكرم أبو محمد عبد الله بن فرحان الأفريقي التوزري، والآخر أبو العباس أحمد الأندلسي الوادي آشي، أنهما قصدا الغار في حين مجاورتهما بمكة شرفها الله تعالى في سنة ثمان وعشرين وسبعمائة، وذهبا منفردين، لم يستصحبا دليلا عارفا بطريقه؛ فتاها. وضلا طريق الغار وسلكا طريقا سواها منقطعة، وذلك في أوان اشتداد الحر وحمى القيظ، فلما نفد ما كان عندهما من الماء، وهما لم يصلا إلى الغار، أخذا في الرجوع إلى مكة شرفها الله تعالى، فوجدا طريقا فاتبعاه وكان يفضي إلى جبل آخر، واشتد بهما الحر، وأجهدهما العطش، وعاينا الهلاك، وعجز الفقيه أبو محمد عبد الله بن فرحان عن المشي جملة، والقى بنفسه إلى الأرض، ونجا الأندلسي بنفسه. وكان فيه فضل قوة، ولم يزل يسلك تلك الجبال حتى أفضى به الطريق إلى أجياد، فدخل إلى مكة شرفها الله تعالى، وقصدني، واعلمني بهذه الحادثة وبما كان من أمر عبد الله التورزي وانقطاعه في الجبل، وكان في ذلك في آخر النهار. ولعبد الله المذكور ابن عم اسمه حسن، وهو من سكان وادي نخلة، وكان إذ ذاك بمكة، فأعلمته بما جرى على ابن عمه، وقصدت الشيخ الصالح الإمام أبا عبد الله محمد بن عبد الرحمن المعروف بخليل إمام ألمالكية نفع الله به، فأعلمته بخبره، فبعث بجماعة من أهل مكة عارفين بتلك الجبال والشعاب في طلبه، وكان من أمر عبد الله التوزري أنه لما فارقه رفيقه، لجأ إلى حجر كبير، فاستظل بظله، وأقام على هذه الحالة من الجهد والعطش، والغربان تطير فوق رأسه، وتنتظر موته. فلما انصرم النهار، واتى الليل، وجد في نفسه قوة وأنعشه برد الليل، فقام عند الصباح على قدميه ونزل من الجبل إلى بطن واد حجبت الجبال عنه الشمس، فلم يزل ماشيا إلى أن بدأت له دابة فقصد قصدها، فوجد خيمة للعرب. فلما رآها وقع إلى الأرض ولم يستطع النهوض، فرأته صاحبة الخيمة، وكان زوجها قد ذهب إلى ورد الماء فسقته ما كان عندها من الماء فلم يرو، وجاء زوجها فسقاه قربة ماء فلم يرو، وأركبه حمارا له، وقدم به مكة فوصلها عند صلاة العصر من الثاني متغيرا كأنه قام من قبر.
ذكر أميري مكة
وكانت إمارة مكة في عهد دخولي إليها للشريفين الأجلين الأخوين: أسد الدين رميثة وسيف الدين عطيفة أبني الأمير أبي نمي بن أبي سعد بن علي بن قتادة الحسنيين. ورميثة أكبرهما سنا، ولكنه كان يقدم اسم عطيفة في الدعاء له بمكة، لعدله ولرميثة من الأولاد أحمد وعجلان، وهو أمير مكة في هذا العهد، وتقيه وسند وأم قاسم. ولعطيفة من الأولاد محمد ومبارك ومسعود. ودار عطيفة عن يمين المروة، ودار أخيه رميثة برباط الشرابي عند باب بني شيبة، وتضرب الطبول على باب كل واحد منهما عند صلاة المغرب من كل يوم.
ذكر أهل مكة وفضائلهم
ولأهل مكة الأفعال الجميلة والمكارم التامة والأخلاق الحسنة والإيثار إلى الضعفاء والمنقطعين وحسن الجوار للغرباء. ومن مكارمهم أنهم متى صنع أحدهم وليمة يبدأ فيها بإطعام الفقراء المنقطعين المجاورين، ويستدعيهم بتلطف ورفق وحسن خلق، ثم يطعمهم. وأكثر المساكين المنقطعين يكونون بالأفران، حيث يطبخ الناس أخبازهم. فإذا طبخ أحدهم خبزه واحتمله إلى منزله فيتبعه المساكين فيعطي لكل واحد منهم ما قسم له، ولا يردهم خائبين، ولو كانت له خبزة واحدة فإنه يعطي ثلثها أو نصفها طيب النفس بذلك من غير ضجر. ومن أفعالهم الحسنة أن الأيتام الصغار يقعدون بالسوق، ومع كل واحد منهم قفتان: كبرى وصغرى وهم يسمون القفة مكتلا فيأتي الرجل من أهل مكة إلى السوق، فيشتري الحبوب واللحم والخضر، ويعطي ذلك الصبي فيجعل الحبوب في إحدى قفتيه، واللحم والخضر في الأخرى، ويوصل ذلك إلى دار الرجل ليهيأ له طعامه منها، ويذهب الرجل إلى طوافه وحاجته، فلا يذكر أن أحدا من الصبيان خان الأمانة في ذلك قط، بل يؤدي ما حمل على ما أتم الوجوه. ولهم على ذلك أجرة معلومة من فلوس. وأهل مكة لهم ظرف ونظافة في الملابس وأكثر لباسهم البياض فترى ثيابهم أبدا ناصعة ساطعة. ويستعملون الطيب كثيرا ويكتحلون ويكثرون السواك بعيدان الأراك الأخضر. ونساء مكة فائقات الحسن بارعات الجمال ذوات صلاح وعفاف. وهن يكثرن التطيب، حتى إن إحداهن لتبيت طاوية وتشتري بقوتها طيبا. وهن يقصدن الطواف بالبيت في كل ليلة جمعة، فيأتين في أحسن زي وتغلب على الحرم رائحة طيبهن، وتذهب المرأة منهن فيبقى أثر الطيب بعد ذهابها عبقا. ولأهل مكة عوائد حسنة وغيره سنذكرها إن شاء الله تعالى إذا فرغنا من ذكر فضائلها ومجاوريها.
ذكر قاضي مكة وخطيبها
وإمام الموسم وعلمائها وصلحائها
قاضي مكة العالم الصالح العابد نجم الدين محمد بن إمام العالم محيي الدين الطبري، وهو فاضل كثير الصدقات والمواساة للمجاورين، حسن الأخلاق كثير الطواف والمشاهدة للكعبة الشريفة، يطعم الطعام الكثير في المواسم المعظمة، وخصوصا في مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه يطعم فيه شرفاء مكة وكبراءها وفقراءها وخدام الحرم الشريف وجميع المجاورين. وكان سلطان مصر الملك الناصر رحمه الله يعظمه كثيرا، وجميع صدقاته وصدقات أمرائه تجرى على يديه. وولده شهاب الدين فاضل، وهو الآن قاضي مكة شرفها الله. وخطيب مكة الإمام بمقام إبراهيم عليه السلام الفصيح المصقع وحيد عصره بهاء الدين الطبري، وهو أحد الخطباء الذين ليس بالمعمورة مثلهم بلاغة وحسن بيان. وذكر لي أنه ينشئ لكل جمعة خطبة ثم لا يكررها فيما بعد. وإمام الموسم وإمام المالكية بالحرم الشريف هو الشيخ الفقيه العالم الصالح الخاشع الشهير أبو عبد الله محمد ابن الفقيه الإمام الصالح الورع أبي زيد عبد الرحمن، وهو المشتهر بخليل نفع الله به وأمتع ببقائه. وأهله من بلاد الجريد من إفريقية، ويعرفون بها ببني حيون من كبارها، ومولده ومولد أبيه بمكة شرفها الله، وهو أحد الكبار من أهل مكة، بل واحدها وقطبها بإجماع الطوائف على ذلك. مستغرق العبادة في جميع أوقاته، حيي كريم النفس حسن الأخلاق كثير الشفقة، لا يرد من سأله خائبا.
حكاية مباركة
رأيت أيام مجاورتي بمكة شرفها الله، وأنا إذ ذاك ساكن منها بالمدرسة المظفرية، والنبي صلى الله عليه وسلم في النوم، وهو قاعد بمجلس التدريس في المدرسة المذكورة بجانب الشباك الذي تشاهد منه الكعبة الشريفة، والناس يبايعونه، فكنت أرى الشيخ أبا عبد الله المدعو بخليل قد دخل وقعد القرفصاء بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعل يده في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: أبايعك على كذا وكذا، وعدد أشياء منها، وأن لا أرد من بيتي مسكينا خائبا، وكان ذلك آخر كلامه، فكنت أعجب من قوله، وأقول في نفسي كيف يقول هذا ويقدر عليه، مع كثرة فقراء مكة واليمن والزيالعة والعراق والعجم ومصر والشام. وكنت أراه حين ذلك لابسا جبة بيضاء قصيرة من ثياب القطن المدعوة بالقفطان. كان يلبسها في بعض الأوقات، فلما صليت الصبح غدوت عليه وأعلمته برؤياي فسر بها وبكى، وقال لي تلك الجبة أهداها بعض الصالحين لجدي، فأنا ألبسها تبركا. وما رأيته بعد ذلك يرد سائلا خائبا. وكان يأمر خدامه يخبزون الخبز ويطبخون الطعام ويأتون به إلي بعد صلاة العصر من كل يوم. وأهل مكة لا يأكلون في اليوم إلا مرة واحدة بعد العصر، ويقتصرون عليها إلى مثل ذلك الوقت. ومن أراد الأكل في سائر النهار أكل التمر. ولذلك صحت أبدانهم، وقلت فيهم الأمراض والعاهات. وكان الشيخ خليل متزوجا بنت القاضي نجم الدين الطبري، فشك في طلاقها وفارقها. وتزوجها بعده الفقيه شهاب الدين النويري من كبار المجاورين، وهو من صعيد مصر. وأقامت عنده أعواما وسافر بها إلى المدينة الشريفة ومعها أخوها شهاب الدين فحنث في يمين بالطلاق، ففارقها على ضنانته بها، وراجعها الفقيه خليل بعد سنين عدة. ومن أعلام مكة إمام الشافعية شهاب الدين بن البرهان، ومنهم إمام الحنفية شهاب الدين أحمد بن علي من كبار أئمة مكة وفضلائها، يطعم المجاورين وأبناء السبيل. وهو أكرم فقهاء مكة. ويدان في كل سنة أربعين ألف درهم وخمسين ألفا، فيؤديها الله عنه. وأمراء الأتراك يعظمونه ويحسنون الظن به، لأنه إمامهم. ومنهم إمام الحنابلة المحدث الفاضل محمد بن عثمان البغدادي الأصل المكي المولد. وهو نائب القاضي نجم الدين، والمحتسب بعد قتل تقي الدين المصري، والناس يهابونه لسطوته.

  #3  
قديم 2008-02-11, 02:10 PM
مكشات 2007 مكشات 2007 غير متواجد حالياً
عـضـو فـعـال
 
تاريخ التسجيل: Nov 2007
الدولة: السعوديه
المشاركات: 191
جنس العضو: ذكر
مكشات 2007 is on a distinguished road
افتراضي

ذكر مدينة مكة المعظمة (2)

حكاية كان تقي الدين المصري محتسبا بمكة، وكان له دخول فيما يعنيه وفيما لا يعنيه. فاتفق في بعض السنين أن أتى أمير الحاج بصبي من ذوي الدعارة بمكة قد سرق بعض الحجاج. فأمر بقطع يده فقال له تقي الدين: إن لم تقطعها بحضرتك، وإلا غلب أهل مكة خدامك عليه. فاستنقذوه منهم وخلصوه، فأمر بقطع يده في حضرته فقطعت. وحقدها لتقي الدين. ولم يزل يتربص به الدوائر، ولا قدرة له عليه لأن له حسبا من الأميرين رميثة وعطيفة والحسب عندهم أن يعطي أحدهم هدية من عمامة أو شاشية بمحضر الناس تكون جوارا لمن أعطيته، ولا تزول حرمتها، معه حتى يريد الرحلة والتحول عن مكة. فأقام تقي الدين بمكة أعواما، ثم عزم على الرحلة، وودع الأميرين، وطاف طواف الوداع، وخرج من باب الصفا. فلقيه صاحبه الأقطع وتشكى له ضعف حاله، وطلب منه ما يستعين به على حاجته. فانتهره تقي الدين وزجره، فاستل خنجرا له يعرف عندهم بالجنبية، وضربه ضربة واحدة كان فيها حتفه. ومنهم الفقيه الصالح زين الدين الطبري، شقيق نجم الدين المذكور من أهل الفضل والإحسان للمجاورين ومنهم الفقيه المبارك محمد بن فهد القرشي، من فضلاء مكة. وكان ينوب عن القاضي نجم الدين بعد وفاة الفقيه محمد بن عثمان الحنبلي، ومنهم العدل الصالح محمد بن البرهان زاهد ورع مبتلى بالوسواس. رأيته يوما يتوضأ من بركة المدرسة المظفرية، فيغسل ويكرر، ولما مسح رأسه أعاد مسحه مرات، ثم لم يقنعه ذلك فغطس رأسه في البركة. وكان إذا أراد الصلاة ربما صلى الإمام الشافعي، وهو يقول: نويت نويت، فيصلي من غيره وكان كثير الطواف والاعتمار والذكر.
ذكر المجاورين بمكة
فمنهم الإمام العالم الصالح الصوفي المحقق العابد عفيف الدين عبد الله بن أسعد اليمني الشافعي الشهير باليافعي، كثير الطواف آناء الليل وأطراف النهار وكان إذا طاف من الليل يصعد إلى سطح المدرسة المظفرية فيقعد مشاهدا للكعبة الشريفة، إلى أن يغلبه النوم فيجعل تحت رأسه حجرا، أو ينام يسيرا، ثم يجدد الوضوء ويعود لحاله من الطواف حتى يصلي الصبح. وكان متزوجا ببنت الفقيه العابد شهاب الدين بن برهان، وكانت صغيرة السن. فلا تزال تشكو إلى أبيها حالها فيأمرها بالصبر، فأقامت معه على ذلك سنين ثم فارقته. ومنهم الصالح العابد نجم الدين الأصفوني. كان قاضيا ببلاد الصعيد فانقطع إلى الله تعالى، وجاور بالحرم الشريف. وكان يعتمر في كل يوم من التنعيم، ويعتمر في رمضان: مرتين في اليوم اعتمادا على ما في الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: عمرة في رمضان تعدل حجة معي . ومنهم الشيخ الصالح العابد شمس الدين محمد الحلبي، كثير الطواف والتلاوة من قدماء المجاورين، توفي بمكة، ومنهم الصالح أبو بكر الشيرازي المعروف بالصامت، كثير الطواف، أقام بمكة أعواما لا يتكلم فيها. ومنهم الصالح خضر العجمي، كثير الصوم والتلاوة والطواف. والشيخ الصالح برهان الدين العجمي الواعظ، كان ينصب له كرسي تجاه الكعبة الشريفة فيعظ الناس ويذكرهم بلسان فصيح وقلب خاشع يأخذ بمجامع القلوب. والصالح المجود برهان الدين إبراهيم المصري مقرىء مجيد ساكن رباط السدرة، ويقصده أهل مصر والشام بصدقاتهم، ويعلم الأيتام كتاب الله تعالى، ويقوم بمؤنهم ويكسوهم. والصالح العابد عز الدين الواسطي من أصحاب الأموال الطائلة، يحمل إليه من بلده المال الكثير في كل سنة، فيبتاع الحبوب والتمر، ويفرقها على الضعفاء والمساكين، ويتولى حملها إلى بيوتهم بنفسه، ولم يزل ذلك دأبه إلى أن توفي. والفقيه الصالح الزاهد أبو الحسن علي بن رزق الله الأنجري من أهل قطر طنجة من كبار الصالحين جاور بمكة سنين وبها وفاته. كانت بينه وبين والدي صحبة قديمة. ومتى أتى إلى بلدنا طنجة نزل عندنا. وكان له بيت بالمدرسة المظفرية يعلم العلم فيها نهارا ويأوي بالليل إلى مسكنه برباط ربيع، وهو من أحسن الرباطات بمكة، بداخله بئر عذبة لا تماثلها بئر بمكة، وسكانها الصالحون وأهل ديار الحجاز يعظمون هذا الرباط تعظيما شديدا وينذرون له النذور، وأهل الطائف يأتونه بالفواكه. ومن عاداتهم أن كل من له بستان من النخيل والعنب والفرسك وهو الخوخ والتين وهو يسمونه الخمط يخرج منه العشر لهذا الرباط. ويوصلون ذلك إليه على جمالهم ومسيرة ما بين مكة والطائف يومان. ومن لم يف بذلك نقصت فواكهه في السنة الآتية وأصابتها الجوائح.
حكاية في فضيلة أتي يوما غلمان الأمير أبي نمي صاحب مكة إلى هذا الرباط ودخلوا بخيل الأمير وسقوها من تلك البئر، فلما عادوا بالخيل إلى مرابطها أصابتها الأوجاع وضربت بأنفسها الأرض برؤوسها وأرجلها. واتصل الخبر بالأمير أبي نمي، فأتى باب الرباط بنفسه، واعتذر إلى المساكين الساكنين به، واستصحب واحدا منهم فمسح على بطون الدواب بيده فأراقت ما كان في أجوافها من ذلك الماء وبرئت مما أصابها، ولم يتعرضوا بعدها للرباط إلا بالخير. ومنهم الصالح المبارك أبو العباس الغماري من أصحاب أبي الحسن بن رزق الله. وسكن رباط ربيع، ووفاته بمكة. ومنهم الصالح أبو يعقوب يوسف بن بادية سبتة، كان خديما للشيخين المذكورين، فلما توفيا صار شيخ الرباط بعدهما. ومنهم الصالح السابح السالك أبو الحسن علي بن فرغوس التلمساني. ومنهم الشيخ سعيد الهندي شيخ رباط كلالة.
حكاية
كان الشيخ سعيد قد قصد ملك الهند محمد شاه، فأعطاه مالا عظيما قدم به مكة. فسجنه الأمير عطيفة، وطلبه بأداء المال، فامتنع فعذب بعصر رجليه، فأعطى خمسة وعشرين ألف درهم نقرة، وعاد إلى بلاد الهند. ورأيته بها، ونزل بدار الأمير سيف الدين غدا ابن هبة الله بن عيسى بن مهنا أمير عرب الشام. وكان غدا ساكنا ببلاد الهند متزوجا بأخت ملكها، وسيذكر أمره. فأعطى ملك الهند للشيخ سعيد جملة مال، وتوجه صحبة حاج يعرف بوشل من ناس الأمير غدا، وجهه الأمير المذكور ليأتيه ببعض ناسه، ووجه معه أموالا وتحفا منها الخلعة التي خلعها عليه ملك الهند ليلة زفافه بأخته، وهي من الحرير الأزرق مزركشة بالذهب، ومرصعة بالجوهر، بحيث لا يظهر لونها لغلبة الجوهر عليها، وبعث معها خمسين ألف درهم ليشتري له الخيل العتاق. فسافر الشيخ سعيد صحبة وشل، واشتريا سلعا بما عندهما من الأموال. فلما وصلا جزيرة سقطرة المنسوب إليها الصبر السقطري، خرج عليهما لصوص الهند في مراكب كثيرة فقاتلوهم قتالا شديدا، مات فيه من الفريقين جملة. وكان وشل راميا فقتل منهم جماعة، ثم تغلب السراق عليهم وطعنوا وشلا طعنة مات منها بعد ذلك. وأخذوا ما كان عندهم، وتركوا لهم مركبهم بآلة سفره وزاده. فذهبوا إلى عدن، ومات بها وشل. وعادة هؤلاء السراق أنهم لا يقتلون أحدا إلا حين القتال ولا يغرقونه، وإنما يأخذون ماله وبتركونه يذهب بمركبه حيث شاء. ولا يأخذون المماليك لأنهم من جنسهم. وكان الحاج سعيد قد سمع من ملك الهند أنه يريد إظهار الدعوة العباسية ببلده، كمثل ما فعله ملوك الهند ممن تقدمه، مثل السلطان شمس الدين للمش واسمه بفتح اللام الأولى وإسكان الثانية وكسر الميم وشين معجم ، وولده ناصر الدين. ومثل السلطان جلال الدين فيروز شاه، والسلطان غياث الدين بلين. وكانت الخلع تأتي إليهم من بغداد. فلما توفي وشل قصد الشيخ سعيد إلى الخليفة أبي العباس ابن الخليفة أبي الربيع سليمان العباسي بمصر، وأعلمه بالأمر. فكتب له كتابا بخطه بالنيابة عنه ببلاد الهند. فاستصحب الشيخ سعيد الكتاب وذهب إلى اليمن واشترى بها ثلاث خلع سودا، وركب البحر إلى الهند. فلما وصل كنبايت، وهي على مسيرة أربعين يوما من دهلي حاضرة ملك الهند، كتب صاحب الخبر إلى الملك يعلمه بقدوم الشيخ سعيد، وأن معه أمر الخليفة وكتابه. فورد الأمر ببعثه إلى الحضرة مكرما. فلما قرب من الحضرة بعث الأمراء والقضاة والفقهاء لتلقيه، ثم خرج هو بنفسه لتلقيه. فتلقاه وعانقه ودفع له الأمر، فقبله ووضعه على رأسه، ودفع له الصندوق الذي فيه الخلع فاحتمله الملك على كاهله خطوات ولبس إحدى الخلع وكسا الأخرى الأمير غياث الدين محمد بن عبد القادر بن يوسف بن عبد العزيز ابن الخليفة المنتصر العباسي، وكان مقيما عنده، وسيذكر خبره.
وكسا الخلعة الثالثة الأمير قبوله الملقب بالملك الكبير، وهو الذي يقوم على رأسه ويشرد عنه الذباب. وأمر السلطان فخلع على الشيخ سعيد ومن معه، وأركبه على الفيل، ودخل المدينة كذلك، والسلطان أمامه على فرسه، وعن يمينه وشماله الأميران اللذان كساهما الخلعتين العباسيتين. والمدينة قد زينت بأنواع الزينة وصنع بها إحدى عشرة قبة من الخشب. كل قبة منها أربع طبقات، في كل طبقة طائفة من المغنين رجالا ونساء، والراقصات، وكلهم مماليك السلطان. والقبة مزينة بثياب الحرير المذهب أعلاها وأسفلها وداخلها وخارجها، وفي وسطها ثلاثة أحواض من جلود الجواميس مملوءة ماء قد حل فيه الجلاب، يشربه كل وارد وصادر، لا يمنع منه أحد. وكل من يشرب منه يعطى بعد ذلك خمس عشرة ورقة من أوراق التنبول والفوفل والنورة، فيأكلها فتطيب نكهته وتزيد في حمرة وجهه ولثاته وتقمع عنه الصفراء وتهضم ما أكل من الطعام. ولما ركب الشيخ سعيد على الفيل فرشت له ثياب الحرير بين يدي الفيل يطأ عليها الفيل من باب المدينة إلى دار السلطان. وأنزل بدار تقرب من دار الملك. وبعث له أموالا طائلة. وجميع الأثواب المعلقة المفروشة بالقباب والموضوعة بين يدي الفيل لا تعود إلى السلطان بل يأخذها أهل الطرب وأهل الصناعات الذين يصنعون القباب، وخدام الأحواض وغيرهم. وهكذا فعلهم من قدم السلطان من سفر. وأمر الملك بكتاب الخليفة أن يقرأ على المنبر بين الخطبتين في كل يوم جمعة، وأقام الشيخ سعيدا شهرا ثم بعث معه الملك هدايا إلى الخليفة. فوصل كنبايت، وأقام بها حتى تيسرت أسباب حركته في البحر. وكان ملك الهند قد بعث أيضا من عنده رسولا إلى الخليفة وهو الشيخ رجب البرقعي، أحد شيوخ الصوفية، وأصله من مدينة القرم من صحراء قفجق، وبعث معه هدايا للخليفة منها حجر ياقوت قيمته خمسون ألف دينار. وكتب له يطلب منه أن يعقد له النيابة عنه ببلاد الهند والسند، ويبعث له سواه من يظهر. هكذا نص عليه كتابه اعتقادا منه في الخلافة وحسن نية. وكان للشيخ رجب أخ بديار مصر يدعى بالأمير سيف الدين الكاشف. فلما وصل رجب إلى الخليفة أبى أن يقرأ الكتاب ويقبل الهدية إلا بمحضر الملك الصالح إسماعيل بن الملك الناصر. فأشار سيف الدين على أخيه رجب ببيع الحجر فباعه واشترى بثمنه، وهو ثلاثمائة ألف درهم، أربعة أحجار. وحضر بين يدي الملك الصالح، ودفع له الكتاب، وأحد الأحجار، ودفع سائرها لأمرائه. واتفقوا على أن يكتب لملك الهند بما طلب.
فوجهوا الشهود إلى الخليفة وأشهد على نفسه أنه قدمه نائبا عنه ببلاد الهند وما يليها، وبعث الملك الصالح رسولا من قبله، وهو شيخ الشيوخ بمصر ركن الدين العجمي، ومعه الشيخ رجب وجماعة من الصوفية، وركبوا بحر فارس من الأبلة إلى هرمز، وسلطانها يومئذ قطب الدين تمتهن طوران شاه. فأكرم مثواهم، وجهز لهم مركبا إلى بلاد الهند فوصلوا مدينة كنبايت والشيخ سعيد بها وأميرها يومئذ مقبول التلتكي، أحد خواص ملك الهند فاجتمع الشيخ رجب بهذا الأمير وقال له أن الشيخ سعيد إنما جاءكم بالتزوير. والخلع التي ساقها إنما اشتراها بعدن، فينبغي أن تثقفوه وتبعثوه إلى خوند عالم وهو السلطان. فقال له الأمير: الشيخ سعيد معظم عند السلطان فما يفعل به هذا إلا بأمره. ولكني أبعثه معك ليرى فيه السلطان رأيه. وكتب الأمير بذلك كله إلى السلطان، وكتب به أيضا صاحب الأخبار فوقع في نفس السلطان تغير، وانقبض عن الشيخ رجب لكونه تكلم بذلك على رؤوس الأشهاد، بعد ما صدر من السلطان للشيخ سعيد من الإكرام ما صدر، فمنع رجب من الدخول عليه، وزاد إكرام الشيخ سعيد، ولما دخل شيخ الشيوخ على السلطان قام إليه وعانقه وأكرمه وكان متى دخل عليه يقوم إليه. وبقي الشيخ سعيد المذكور بأرض الهند معظما مكرما. وبها تركته سنة ثمان وأربعين. وكان بمكة أيام مجاورتي بها حسن المغربي المجنون، وأمره غريب وشأنه عجيب. وكان قبل ذلك صحيح العقل خديما لولي الله تعالى نجم الدين الأصبهاني أيام حياته.
حكاية
كان حسن المجنون كثير الطواف بالليل، وكان يرى في طوافه بالليل فقيرا، يكثر الطواف، ولا يراه بالنهار. فلقيه ذلك الفقير ليلة، وسأله عن حاله، وقال يا حسن: إن أمك تبكي عليك، وهي مشتاقة إلى رؤيتك، وكانت من إماء الله الصالحات، أفتحب أن تراها قال له: نعم، ولكني لا قدرة لي على ذلك. فقال له: نجتمع ها هنا في الليلة المقبلة إن شاء الله تعالى - فلما كانت الليلة المقبلة، وهي ليلة الجمعة، وجده حيث واعده - فطافا بالبيت ما شاء الله، ثم خرج، وهو في أثره، إلى باب المعلى. فأمره أن يسد عينيه ويمسك بثوبه ففعل ذلك. ثم قال: بعد ساعة: أتعرف بلدك ? قال نعم. قال: ها هو هذا. ففتح عينيه، فإذا به على دار أمه، فدخل عليها، ولم يعلمها بشيء مما جرى، وأقام عندها نصف شهر، وأظن أن بلده مدينة أسفي . ثم خرج إلى الجبانة، فوجد الفقير صاحبه، فقال له: كيف أنت ? فقال: يا سيدي، إني اشتقت إلى رؤية الشيخ نجم الدين؛ وكنت خرجت على عادتي، وغبت عنه هذه الأيام، وأحب أن تردني إليه. فقال له: نعم، وواعده الجبانة ليلا. فلما وافاه بها، أمره أن يفعل كفعله في مكة شرفها الله، من تغميض عينيه والإمساك بذيله ففعل ذلك، فإذا به في مكة شرفها الله. وأوصاه أن لا يحدث نجم الدين بشيء مما جرى، ولا يحدث به غيره فلما دخل على نجم الدين، قال له: أين كنت يا حسن في غيبتك ? فأبى أن يخبره. فعزم عليه، فأخبره بالحكاية. فقال: أرني الرجل، فأتي معه ليلا، وأتى الرجل على عادته. فلما مر بهما قال له: يا سيدي هو هذا. فسمعه الرجل فضربه بيده على فمه وقال اسكت اسكتك الله. فخرس لسانه، وذهب عقله، وبقي بالحرم مولها يطوف بالليل والنهار من غير وضوء ولا صلاة، والناس يتبركون به ويكسونه، وإذا جاع خرج إلى السوق التي بين الصفا والمروة، فيقصد حانوتا من الحوانيت، فيأكل منها ما أحب، لا يصده أحد ولا يمنعه بل يسر كل من أكل له شيئا، وتظهر له البركة والنماء في بيعه وربحه. ومتى أتى السوق تطاول أهلها بأعناقهم إليه، كل منهم يحرص على أن يأكل من عنده، لما جربوه من بركته. كذلك فعله مع السقائين، متى أحب أن يشرب. ولم يزل دأبه كذلك إلى سنة ثمان وعشرين، فحج فيها الأمير سيف الدين يلملك، فاستصحبه معه إلى ديار مصر، فانقطع خبره نفع الله تعالى به.
ذكر عادة أهل مكة في صلواتهم ومواضع أئمتهم
فمن عاداتهم أن يصلي أول الأئمة إمام الشافعية، وهو المقدم من قبل أولي الأمر. وصلاته خلف المقام الكريم، مقام إبراهيم الخليل عليه السلام في حطيم له هنالك بديع. وجمهور الناس بمكة على مذهبه. والحطيم خشبتان موصول ما بينها بأذرع شبه السلم، تقابلهما خشبتان على صفتهما، وقد عقدت على أرجل مجصصة، وعرض على أعلى الخشب خشبة أخرى فيها خطاطيف حديد يعلق فيها قناديل زجاج. فإذا صلى الإمام الشافعي صلى بعده إمام المالكية في محراب قبالة الركن اليماني، ويصلي إمام الحنبلية معه في وقت واحد مقابلا ما بين الحجر الأسود والركن اليماني، ثم يصلي إمام الحنفية قبال الميزاب المكرم تحت حطيم له هنالك، ويوضع بين يدي الأئمة في محاربيهم الشمع. وترتيبهم هكذا في الصلوات الأربع، وأما صلاة المغرب فإنهم يصلونها في وقت واحد، كل إمام يصلي بطائفته، ويدخل على الناس من ذلك سهو تخليط، فربما ركع المالكي بركوع الشافعي وسجد الحنفي بسجود الحنبلي. وتراهم مصيخين كل واحد إلى صوت المؤذن الذي يسمع طائفته لئلا يدخل عليه السهو.
ذكر عاداتهم في الخطبة وصلاة الجمعة
وعادتهم في يوم الجمعة أن يلصق المنبر المبارك إلى صفح الكعبة الشريفة، فيما بين الحجر الأسود والركن العراقي، ويكون الخطيب مستقبلا المقام الكريم. فإذا خرج الخطيب، أقبل لابسا ثوب سواد، معتما بعمامة سوداء، وعليه طيلسان أسود. كل ذلك من كسوة الملك الناصر. وعليه الوقار والسكينة، وهو يتهادى بين رايتين سوداوين، يمسكهما رجلان من المؤذنين، وبين يديه أحد القومه، في يده الفرقعة، وهي عود في طرفه جلد رقيق مفتول، ينفضه في الهواء فيسمع له صوت عال يسمعه من بداخل الحرم وخارجه، فيكون إعلاما بخروج الخطيب. ولا يزال كذلك إلى أن يقرب من المنبر فيقبل الحجر الأسود ويدعو عنده، ثم يقصد المنبر، والمؤذن الزمزمي، وهو رئيس المؤذنين بين يديه، لابسا السواد وعلى عاتقه السيف ممسكا له بيده، وتركز الرايتان عن جانبي المنبر. فإذا صعد أول درج من درج المنبر قلده المؤذن السيف، فيضرب بنصل السيف ضربة في الدرج يسمع بها الحاضرين، ثم يضرب في الدرج الثاني ضربة، ثم في الثالث أخرى.فإذا استوى في عليا الدرجات ضرب ضربة رابعة، ووقف داعيا بدعاء خفي، مستقبل الكعبة. ثم يقبل على الناس فيسلم عن يمينه وشماله، ويرد عليه الناس، ثم يقعد. ويؤذن المؤذنون في أعلى قبة زمزم في حين واحد. فإذا فرغ الأذان، خطب الخطيب خطبة يكثر بها من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ويقول في أثنائها: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد ما طاف بهذا البيت طائف، ويشير بأصبعه إلى البيت الكريم: اللهم صل على محمد وآل محمد ما وقف بعرفة واقف. ويترضى عن الخلفاء الأربعة وعن سائر الصحابة وعن النبي صلى الله عليه وسلم وسبطيه وأمهما وخديجة جدتهما، على جميعهم السلام. ثم يدعو للملك الناصر، ثم للسلطان المجاهد نور الدين علي ابن الملك المؤيد داود ابن الملك المظفر يوسف بن علي بن رسول، ثم للسيدين الشريفين الحسنيين أميري مكة. سيف الدين عطيفة، وهو أصغر الأخوين، ويقدم اسمه لعدله، وأسد الدين رميثة، ابني أبي نمي بن أبي سعيد بن علي بن قتادة. وقد دعا لسلطان العراق مرة، ثم قطع ذلك. فلما فرغ من خطبته وانصرف، والرايتان عن يمينه وشماله والفرقعة أمامه إشعارا بانقضاء الصلاة، ثم يعاد المنبر إلى مكانه الكريم.
ذكر عاداتهم في استهلال الشهور
وعادتهم في ذلك أن يأتي أمير مكة في أول يوم من الشهر، وقواده يحفون به، وهو لابس البياض معتم متقلد سيفا وعليه السكينة والوقار، فيصلي عند المقام الكبير ركعتين، ثم يقبل الحجر، ويسرع في طواف اسبوع . ورئيس المؤذنين على أعلى قبة زمزم. فعند ما يكمل الأمير شوطا واحدا. ويقصد الحجر لتقبيله، يندفع رئيس المؤذنين بالدعاء له، والتهنئة بدخول الشهر، رافعا بذلك صوته، ثم يذكر شعرا في مدحه ومدح سلفه الكريم. ويفعل به هكذا في السبعة أشواط. فإذا فرغ منها ركع عند الملتزم ركعتين، ثم ركع خلف المقام أيضا ركعتين، ثم انصرف. ومثل هذا سواء يفعل إذا أراد سفرا وإذا قدم من سفر أيضا.
ذكر عادتهم في شهر رجب
وإذا هل هلال رجب أمر أمير مكة بضرب الطبول والبوقات اشعارا بدخول الشهر، ثم يخرج في أول يوم منه راكبا. ومعه أهل مكة فرسانا ورجالا، على ترتيب عجيب، وكلهم بالأسلحة، يلعبون بين يديه، والفرسان يجولون ويجرون، والرجال يتواثبون ويرمون بحرابهم إلى الهواء، ويلقفونها، والأمير رميثة والأمير عطيفة معهما أولادهما وقوادهما مثل محمد بن إبراهيم، وعلي وأحمد ابني صبيح، وعلي بن يوسف وشداد بن عمر وعامر الشرق ومنصور بن عمر وموسى المزرق، وغيرهم من كبار أولاد الحسن ووجوه القواد. وبين أيديهم الرايات والطبول والدبادب، وعليهم السكينة والوقار. ويسيرون حتى ينتهوا إلى الميقات، ثم يأخذون في الرجوع على معهود ترتيبهم إلى المسجد الحرام، فيطوف الأمير بالبيت، والمؤذن الزمزمي بأعلى قبة زمزم يدعو له عند كل شوط، على ما ذكرناه من عادته، فإذا طاف صلى ركعتين عند الملتزم، وصلى عند المقام وتمسح به، وخرج إلى المسعى فسعى راكبا والقواد يحفون به، والحرابة بين يديه، ثم يسير إلى منزله. وهذا اليوم عندهم عيد من الأعياد يلبسون فيه أحسن الثياب ويتنافسون في ذلك.
ذكر عمرة رجب
وأهل مكة يحتفلون لعمرة رجب الاحتفال الذي لا يعهد مثله، وهي متصلة ليلا نهارا. وأوقات الشهر كله معمورة بالعبادة، وخصوصا أول يوم منه، ويوم خمسة عشر، والسابع والعشرين. فإنهم يستعدون لها قبل ذلك بأيام. شاهدتهم في ليلة السابع والعشرين منه، وشوارع مكة قد غصت بالهوادج عليها كساء الحرير والكتان الرفيع، كل واحد يفعل بقدر استطاعته، والجمال مزينة مقلدة بقلائد الحرير، وأستار الهوادج ضافية تكاد تمس الأرض فهي كالقباب المضروبة. ويخرجون إلى ميقات التنعيم فتسيل أباطح مكة بتلك الهوادج، والنيران مشعلة بجنبتي الطريق، والشمع والمشاعل أمام الهوادج، والجبال تجيب بصداها إهلال المهللين، فترق النفوس، وتنهمل الدموع، فإذا قضوا العمرة، وطافوا بالبيت، خرجوا إلى السعي بين الصفا والمروة بعد مضي شيء من الليل، والمسعى متقد السرج غاص بالناس، والساعيات على هوادجهن، والمسجد الحرام يتلألأ نورا. وهم يسمون هذه العمرة بالعمرة الأكمية، لأنهم يحرمون بها من أكمة مسجد عائشة رضي الله عنها بمقدار غلوة، على مقربة من المسجد المنسوب إلى علي رضي الله عنه. والأصل في هذه العمرة أن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما لما فرغ من بناء الكعبة المقدسة خرج ماشيا حافيا معتمرا، ومعه أهل مكة وذلك في اليوم السابع والعشرين من رجب، وانتهى إلى الأكمة فأحرم منها، وجعل طريقه على ثنية الحجون إلى المعلى، من حيث دخل المسلمون يوم الفتح. فبقيت تلك العمرة سنة عند أهل مكة إلى هذا العهد، وكان عهد عبد الله مذكورا أهدى فيه بدنا كبيرة، وأهدى أشراف مكة وأهل الاستطاعة منهم. وأقاموا أياما يطعمون ويطعمون شكرا لله على ما وهبهم من التيسير والمعونة في بناء بيته الكريم، على الصفة التي كانت عليها في أيام الخليل صلوات الله عليه. ثم لما قتل ابن الزبير نقض الحجاج الكعبة، وردها إلى بنائها في عهد قريش وكانوا قد اقتصروا في بنائها، وأبقاها رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك، لحدثان عهدهم بالكفر. ثم أراد الخليفة أبو جعفر المنصور أن يعيدها إلى بناء ابن الزبير، فنهاه مالك رحمه الله عن ذلك، وقال: يا أمير المؤمنين، لا تجعل البيت ملعبة للملوك، متى أراد أحدهم أن يغير فعل. فتركه على حاله سدا للذريعة وأهل البلاد الموالية لمكة، مثل بجيله وزهران وغامد، يبادرون لحضور عمرة رجب ويجلبون إلى مكة الحبوب والسمن والعسل والزبيب والزيت واللوز، فترخص الأسعار بمكة ويرغد عيش أهلها وتعمم المرافق، ولولا أهل هذه البلاد لكان أهل مكة في شظف من العيش. ويذكر أنهم متى أقاموا ببلادهم، ولم يأتوا بهذه الميرة أجدبت بلادهم ووقع الموت في مواشيهم. ومتى أوصلوا الميرة أخصبت بلادهم وظهرت فيها البركة ونمت أموالهم. فهم إذا حان وقت ميرتهم وأدركهم كسل عنها، اجتمعت نساؤهم فأخرجنهم. وهذا من لطائف صنع الله تعالى وعنايته ببلده الأمين وبلاد السرو التي يسكنها بجيله وزهران وغامد وسواهم من القبائل مخصبة كثيرة الأعناب وافرة الغلات، وأهلها فصحاء الألسن، لهم صدق نية وحسن اعتقاد. وهم إذا طافوا بالكعبة يتطارحون عليها، لائذين بجوارها، متعلقين بأستارها، داعين بأدعية يتصدع لرقتها القلوب: وتدمع العيون الجامدة، فترى الناس حولهم باسطي أيديهم مؤمنين على أدعيتهم. ولا يتمكن لغيرهم الطواف معهم، ولا استلام الحجر، لتزاحمهم على ذلك. وهم شجعان أنجاد، ولباسهم الجلود. وإذا وردوا مكة هابت اعراب الطريق مقدمهم، وتجنبوا اعتراضهم، ومن صحبهم من الزوار حمد صحبتهم. وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكرهم، وأثنى عليهم خيرا وقال: علموهم الصلاة يعلموكم الدعاء. وكفاهم شرفا دخولهم في عموم قوله صلى الله عليه وسلم الإيمان يمان والحكمة يمانية . وذكر أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان يتحرى وقت طوافهم ويدخل في جملتهم تبركا بدعائهم. وشأنهم عجيب كله، وقد جاء في أثر: زاحموهم في الطواف، فإن الرحمة تنصب عليهم صبا.
ذكر عادتهم في ليلة النصف من شعبان
وهذه الليلة من الليالي المعظمة عند أهل مكة، يبادرون فيها إلى أعمال البر من الطواف والصلاة جماعات وأفذاذا والاعتمار. ويجتمعون في المسجد الحرام جماعة، لكل جماعة إمام. ويوقدون السرج والمصابيح والمشاعل. ويقابل ذلك ضوء القمر فتتلألأ الأرض والسماء نورا ويصلون مائة ركعة، يقرأون في كل ركعة بأم القرآن وسورة الإخلاص، يكررونها عشرا وبعض الناس يصلون في الحجر منفردين، وبعضهم يطوفون بالبيت الشريف، وبعضهم قد خرجوا للاعتمار.
ذكر عادتهم في شهر رمضان المعظم
وإذا أهل هلال رمضان تضرب الطبول والدبادب عند أمير مكة. ويقع الاحتفال بالمسجد الحرام، من تجديد الحصر، وتكثير الشمع والمشاعل، حتى يتلألأ الحرم نورا، ويسطع بهجة وإشراقا. وتتفرق الأئمة فرقا. وهم الشافعية والحنبلية والحنفية والزيدية، وأما المالكية فيجتمعون على أربعة من القراء، يتناوبون القراءة ويوقدون الشمع ولا تبقى في الحرم زاوية ولا ناحية إلا وفيها قارئ يصلي بجماعة، فيرتج المسجد لأصوات القراء، وترق النفوس وتحضر القلوب وتهمل الأعين. ومن الناس من يقتصر على الطواف والصلاة في الحجر منفردا. والشافعية أكثر الأئمة اجتهادا، وعاداتهم أنهم إذا أكملوا التراويح المعتادة، وهي عشرون ركعة، يطوف إمامهم وجماعته. فإذا فرغ من الأسبوع ضربت الفرقعة التي ذكرنا أنها تكون بين يدي الخطيب يوم الجمعة، كان ذلك إعلاما بالعودة إلى الصلاة. ثم يصلي ركعتين، ثم يطوف أسبوعا هكذا إلى أن يتم عشرين ركعة أخرى. ثم يصلون الشفع والوتر، وينصرفون. وسائر الأئمة لا يزيدون على العادة شيئا. وإذا كان وقت السحور يتولى المؤذن الزمزمي التسحير في الصومعة التي بالركن الشرقي من الحرم، فيقوم داعيا ومذكرا ومحرضا على السحور، وهكذا يفعلون في سائر الصوامع. فإذا تكلم أحد منهم أجابه صاحبه، وقد نصبت في أعلى كل صومعة خشبة على رأسها عود معترض، قد علق فيه قنديلان من الزجاج كبيران يوقدان، فإذا قرب الفجر وقع الإيذان بالقطع مرة بعد مرة، وحط القنديلان، وابتدأ المؤذنون بالأذان. وأجاب بعضهم بعضا. ولديار مكة شرفها الله سطوح. فمن بعدت داره بحيث لا يسمع الأذان يبصر القنديلين المذكورين فيتسحر. حتى إذا لم يبصرها أقلع عن الأكل. وفي ليلة وتر من ليالي العشر الأواخر من رمضان يختمون القرآن ويحضر الختم القاضي والفقهاء والكبراء. ويكون الذي يختم بها أحد أبناء كبراء أهل مكة. فإذا ختم، نصب له منبر مزين بالحرير، وأوقد الشمع، وخطب. فإذا فرغ من خطبته استدعى أبوه الناس إلى منزله فأطعمهم الأطعمة الكثيرة والحلاوات وكذلك يصنعون في جميع ليالي الوتر. واعظم من تلك الليالي عندهم ليلة سبع وعشرين. واحتفالهم لها أعظم من احتفالهم لسائر الليالي. ويختم بها القرآن العظيم خلف المقام الكريم. وتقام إزاء حطيم الشافعية خشب عظام، توصل بالحطيم، وتعرض بينها ألواح طوال، وتجعل ثلاث طبقات، وعليها الشمع وقنديل الزجاج، فيكاد يغشى الأبصار شعاع الأنوار، ويتقدم الإمام، فيصلي فريضة العشاء الآخرة، ثم يبتدئ قراءة سورة القدر. وإليها يكون انتهاء قراءة الأئمة في الليلة التي قبلها وفي تلك الساعة يمسك جميع الأئمة عن التراويح تعظيما لختمة المقام، ويحضرونها متبركين، فيختم الإمام في تسليمتين، ثم يقوم خطيبا مستقبل المقام، فإذا فرغ من ذلك عاد الأئمة إلى صلاتهم، وانفض الجميع. ثم يكون الختم ليلة تسع وعشرين في المقام المالكي في منظر مختصر وعن المباهاة منزه موقر فيختم ويخطب.
ذكر عادتهم في شوال
وعادتهم في شوال، وهو مفتتح أشهر الحج المعلومات، أن يوقدوا المشاعل ليلة استهلاله، ويسرجون المصابيح والشمع، على نحو فعلهم في ليلة سبع وعشرين من رمضان. وتوقد السرج في الصوامع من جميع جهاتها، ويوقد سطح الحرم كله وسطح المسجد الذي بأعلى أبي قبيس، ويقيم المؤذنون ليلتهم تلك في تهليل وتكبير وتسبيح، والناس ما بين طواف وصلاة وذكر ودعاء فإذا صلوا صلاة الصبح أخذوا في أهبة العيد، ولبسوا أحسن ثيابهم، وبادروا لأخذ مجالسهم بالحرم الشريف، به يصلون صلاة العيد، لأنه لا موضع أفضل منه. ويكون أول من يبكر إلى المسجد الشيبيون فيفتحون باب الكعبة المقدسة، ويقعد كبيرهم في عتبتها، وسائرهم بين يديه، إلى أن يأتي أمير مكة فيتلقونه، ويطوف بالبيت أسبوعا، والمؤذن الزمزمي فوق سطح قبة زمزم على العادة، رافعا صوته بالثناء عليه والدعاء له ولأخيه كما ذكر، ثم يأتي الخطيب بين الرايتين السوداوين، والفرقعة أمامه، وهو لابس السواد، فيصلي خلف المقام الكريم، ثم يصعد المنبر ويخطب خطبة بليغة. ثم إذا فرغ منها أقبل الناس بعضهم على بعض بالسلام والمصافحة والاستغفار، ويقصدون الكعبة الشريفة فيدخلونها أفواجا، ثم يخرجون إلى مقبرة باب المعلى، تبركا بمن فيها من الصحابة وصدور السلف ثم ينصرفون.
ذكر إحرام الكعبة
وفي اليوم السابع والعشرين من شهر ذي القعدة تشمر أستار الكعبة، زادها الله تعظيما، إلى نحو ارتفاع قامة ونصف من جهاتها الأربع صونا لها من الأيدي أن تنتهبها. ويسمون ذلك إحرام الكعبة وهو يوم مشهود بالحرم الشريف. ولا تفتح الكعبة المقدسة من ذلك اليوم حتى تنقضي الوقفة بعرفة.
ذكر شعائر الحج وأعماله
وإذا كان في أول يوم شهر ذي الحجة، تضرب الطبول والدبادب في أوقات الصلوات بكرة وعشية، إشعارها بالموسم المبارك. ولا تزال كذلك إلى يوم الصعود إلى عرفات. فإذا كان اليوم السابع من ذي الحجة خطب الخطيب إثر صلاة الظهر خطبة بليغة، يعلم الناس فيها مناسكهم، ويعلمهم بيوم الوقفة، فإذا كان اليوم الثاني بكر الناس بالصعود إلى منى. وأمراء مصر والشام والعراق وأهل العلم يبتيون تلك الليلة بمنى وتقع المباهاة والمفاخرة بين أهل مصر والشام والعراق في إيقاد الشمع. ولكن الفضل في ذلك لأهل الشام دائما. فإذا كان اليوم التاسع رحلوا من منى بعد صلاة الصبح إلى عرفة. فيمرون في طريقهم بوادي محسر، ويهرولون، وذلك سنة. ووادي محسر هو الحد ما بين مزدلفة ومنى، ومزدلفة بسيط من الأرض فسيح بين جبلين، وحولها مصانع وصهاريج للماء، مما بنته زبيدة ابنة جعفر بن أبي جعفر المنصور زوجة أمير المؤمنين هارون الرشيد. وبين منى وعرفة خمسة أميال، وكذلك بين منى ومكة أيضا خمسة أميال. ولعرفة ثلاثة أسماء وهي، عرفة وجمع والمشعر الحرام، وعرفات بسيط من الأرض فسيح أفيح، تحدق به جبال كثيرة. وفي آخر بسيط عرفات جبل الرحمة، وفيه الموقف، وفيما حوله، والعلمان قبله بنحو ميل، وهما الحد ما بين الحل والحرم. وبمقربة منهما مما يلي عرفة بطن عرنة الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالارتفاع عنه، ويجب التحفظ منه، ويجب أيضا الإمساك عن النفور حتى يتمكن سقوط الشمس. فإن الجمالين ربما استحثوا كثيرا من الناس، وحذروهم الزحام في النفر، واستدرجوهم إلى أن يصلوا بهم بطن عرنة، فيبطل حجهم. وجبل الرحمة الذي ذكرناه قائم وسط بسيط جمع منقطع عن الجبال، وهو من حجارة منقطع بعضها عن بعض. وفي أعلاه قبة تنسب إلى أم سلمة رضي الله عنهما، وفي وسطها مسجد يتزاحم الناس للصلاة فيه، وحوله سطح فسيح يشرف على بسيط عرفات، وفي قبليه جدار فيه محاريب منصوبة يصلي فيه الناس، وفي أسفل هذا الجبل عن يسار المستقبل للكعبة دار عتيقة البناء تنسب إلى آدم عليه السلام، وعن يسارها الصخرات التي كان موقفف النبي صلى الله عليه وسلم عندها، وحول ذلك صهاريج وجبات للماء، وبمقربة منه الموضع الذي يقف في الإمام ويخطب ويجمع بين الظهر والعصر، وعن يسار العلمين للمستقبل أيضا وادي الأراك وبه أراك اخضر يمتد في الأرض امتدادا طويلا، وإذا حان وقت النفر أشار الإمام المالكي بيده، ونزل عن موقفه، فدفع الناس بالنفر دفعة ترتج لها الأرض، وترجف الجبال. فياله موقفا كريما ومشهدا عظيما ترجو النفوس حسن عقباه، وتطمح الآمال إلى نفحات رحماه، وجعلنا الله ممن خصه فيه برضاه. وكانت وقفتي الأولى يوم الخميس سنة ست وعشرين، وأمير الركب المصري يومئذ أرغون الدوادار نائب الملك الناصر. وحجت في تلك السنة ابنة الملك الناصر وهي زوجة أبي بكر ابن أرغون المذكور.وحجت فيها زوجة الملك الناصر والمسماة بالخونده، وهي بنت السلطان المعظم محمد أوزبك ملك السرا وخوارزم، وأمير الركب الشامي سيف الدين الجوبان. ولما وقع النفر بعد غروب الشمس، وصلنا مزدلفة عند العشاء الآخرة، فصلينا بها المغرب والعشاء جمعا بينهما حسبما جرت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولما صلينا الصبح بمزدلفة غدونا منها إلى منى بعد الوقوف والدعاء بالمشعر الحرام. ومزدلفة كلها موقف إلا وادي محسر، ففيه تقع الهرولة حتى يخرج عنه. ومن مزدلفة يستصحب أكثر الناس حصيات الجمار، وذلك مستحب. ومنهم من يلقطها حول مسجد الخيف. والأمر في ذلك واسع. ولما انتهى الناس إلى منى بادروا لرمي جمرة العقبة، ثم نحروا وذبحوا، ثم حلقوا وحلوا من كل شيء إلا النساء والطيب حتى يطوفوا طواف الافاضة ورمي هذه الجمرة عند طلوع الشمس من يوم النحر. لما رموها توجه أكثر الناس بعد أن ذبحوا وحلقوا إلى طواف الإفاضة. ومنهم من أقام إلى اليوم الثاني. وفي اليوم الثاني رمى الناس عند زوال الشمس بالجمرة الأولى سبع حصيات، وبالوسطى كذلك، ووقفوا للدعاء بهاتين الجمرتين اقتداء بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولما كان اليوم الثالث تعجل الناس الانحدار إلى مكة شرفها الله، بعد أن كمل لهم رمي تسع وأربعين حصاة. وكثير منهم أقام اليوم الثالث بعد يوم النحر حتى رمي سبعين حصاة.
ذكر كسوة الكعبة
وفي يوم النحر بعثت كسوة الكعبة الشريفة من الركب المصري إلى البيت الكريم، فوضعت في سطحه، فلما كان اليوم الثالث بعد يوم النحر أخذ الشيبيون في إسبالها على الكعبة الشريفة. وهي كسوة سوداء حالكة من الحرير مبطنة بالكتان وفي أعلاها طراز مكتوب فيه بالبياض جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما الآية. وفي سائر جهاتها طراز مكتوب بالبياض فيها آيات من القرآن، وعليها نور لائح مشرق من سوادها. ولما كيست شمرت أذيالها صونا من أيدي الناس. والملك الناصر هو الذي يتولى كسوة الكعبة الكريمة، ويبعث مرتبات القاضي والخطيب والأئمة والمؤذنين والفراشين والقومة، وما يحتاج له الحرم الشريف من الشمع والزيت في كل سنة. وفي هذه الأيام تفتح الكعبة الشريفة في كل يوم للعراقيين والخراسانين وسواهم ممن يصل مع الركب العراقي، وهم يقيمون بمكة بعد سفر الركبين الشامي والمصري أربعة أيام، فيكثرون فيها الصدقات على المجاورين وغيرهم. ولقد شاهدتهم يطوفون بالحرم ليلا، فمن لقوه في الحرم من المجاورين أو المكيين أعطوه الفضة والثياب، وكذلك يعطون للمشاهدين الكعبة الشريفة، وربما وجدوا إنسانا نائما فجعلوا في فيه الذهب والفضة حتى يفيق. ولما قدمت معهم من العراق سنة ثمان وعشرين فعلوا من ذلك كثيرا، وأكثروا الصدقة حتى رخص سوم الذهب بمكة، وانتهى صرف المثقال إلى ثمانية عشر درهما نقرة، لكثرة ما تصدقوا به من الذهب. وفي هذه السنة ذكر اسم السلطان أبي السعيد ملك العراق على المنبر وقبة زمزم

  #4  
قديم 2008-02-12, 01:53 PM
عبدالهادي المفرج التميمي عبدالهادي المفرج التميمي غير متواجد حالياً
المدير التنفيذي لشبكة البراري
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
الدولة: تمير
المشاركات: 33,020
جنس العضو: ذكر
عبدالهادي المفرج التميمي is on a distinguished road
افتراضي

اكذب عليك لو قلت اني قريت رحلة بن خلدون
لكن الموضوع متعوووب عليه
ومريت على بعض المقتطفاااااااات
وطبعتها لقراءتها على مهل
مشكوووووووووور




سلام

التوقيع:
  #5  
قديم 2008-02-12, 06:47 PM
ابونوره6 ابونوره6 غير متواجد حالياً
عضو ذهبــي
 
تاريخ التسجيل: Dec 2007
الدولة: الرس
المشاركات: 1,096

ابونوره6 is on a distinguished road
افتراضي

الله يعطيك العافية

  #6  
قديم 2008-02-13, 01:52 AM
مكشات 2007 مكشات 2007 غير متواجد حالياً
عـضـو فـعـال
 
تاريخ التسجيل: Nov 2007
الدولة: السعوديه
المشاركات: 191
جنس العضو: ذكر
مكشات 2007 is on a distinguished road
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة هادي مشاهدة المشاركة
اكذب عليك لو قلت اني قريت رحلة بن خلدون
لكن الموضوع متعوووب عليه
ومريت على بعض المقتطفاااااااات
وطبعتها لقراءتها على مهل
مشكوووووووووور




سلام
شرفتنا هلا ومرحبا يكفي المقتطفات لكن العبره ان بن خلدون قضى ما يقارب 25 عاما في هذه الرحله حتى رجع الى المغرب رحله قصيرررره 0

  #7  
قديم 2008-02-13, 01:53 AM
مكشات 2007 مكشات 2007 غير متواجد حالياً
عـضـو فـعـال
 
تاريخ التسجيل: Nov 2007
الدولة: السعوديه
المشاركات: 191
جنس العضو: ذكر
مكشات 2007 is on a distinguished road
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ابونوره6 مشاهدة المشاركة
الله يعطيك العافية
هلا ابو نوره حياك الله الله ينور ايامك بالايمان 0

  #8  
قديم 2008-02-14, 10:35 PM
ذهول العاصفة ذهول العاصفة غير متواجد حالياً
عـضـو ذهـبـي
 
تاريخ التسجيل: Dec 2007
الدولة: المدينـه المنــوره
المشاركات: 5,201

ذهول العاصفة is on a distinguished road
افتراضي

بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
اخي الكريم

مكشات 2007


الله يعطيكــ العافية على الطرح القيم طرح اكثر من رائع


حفظكــ البارئ من كل سوء






في انتظاركــ جديدكـــ الجميل



اتمنى لكــ التوفيق ولكــ مني
اطيب الاحترام والتقدير


!!!اخـــــــــوكـــــــــــ ذهـــــــــــول العاصفة ــــــــ!!!


لا اله الاانت سبحانك اني كنت من الظالمين

  #9  
قديم 2008-02-15, 03:56 PM
مكشات 2007 مكشات 2007 غير متواجد حالياً
عـضـو فـعـال
 
تاريخ التسجيل: Nov 2007
الدولة: السعوديه
المشاركات: 191
جنس العضو: ذكر
مكشات 2007 is on a distinguished road
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ذهول العاصفة مشاهدة المشاركة
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
اخي الكريم
مكشات 2007


الله يعطيكــ العافية على الطرح القيم طرح اكثر من رائع


حفظكــ البارئ من كل سوء






في انتظاركــ جديدكـــ الجميل



اتمنى لكــ التوفيق ولكــ مني
اطيب الاحترام والتقدير


!!!اخـــــــــوكـــــــــــ ذهـــــــــــول العاصفة ــــــــ!!!


لا اله الاانت سبحانك اني كنت من الظالمين
الله يجزاك خير 00 شرفني مرورك

  #10  
قديم 2008-02-17, 12:50 PM
خالد الشمري خالد الشمري غير متواجد حالياً
( مراسل حائل سابقًا )
 
تاريخ التسجيل: Sep 2007
الدولة: حائــــــــــــل
المشاركات: 4,083
جنس العضو: ذكر
خالد الشمري is on a distinguished road
افتراضي

مشكور أخوي على الموضوع

موضوع مغلق


المتواجدين الآن بالموضوع : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

 


الساعة الآن 05:35 AM


Powered by vBulletin .
جميع الحقوق محفوظة © لشبكة ومنتديات البراري 2010