عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 2010-02-11, 08:13 PM
الشبيعان الشبيعان غير متواجد حالياً
عضو متميـز
 
تاريخ التسجيل: May 2008
الدولة: المجمعة
المشاركات: 2,719
جنس العضو: ذكر
الشبيعان is on a distinguished road
افتراضي الإسلام والبيئة -- خطبة الجمعة للشيخ / خالد بن عبدالله بن علي الجبير

الإسلام والبيئة
الإسلام والبيئة




الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد.
فإن المتأمل في دين الإسلام ليجد فيه نظرة شمولية للحياة، تشمل الدين والدنيا.
نظرة مستمدة من توجيهات ربانية جعلت المتمسك بها يسعد في دنياه وأخراه. وإن البعض لقصور فهمه ليستنكر ويستغرب حينما يُطلب حكم الإسلام في شأن من شؤون الحياة العامة. وإن من شؤون الحياة العامة التي للإسلام حكم فيها، والتي جاء في الإسلام تنظيم لها وعناية بها، هي البيئة وذلك بهدف تحقيق الاستفادة المثلى منها وتأمين السعادة للبشرية من خلال استغلال مواردها الطبيعية استغلالا مثاليا.
يقول ربنا جل وعلا ((اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ ()وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ))
الأرض وما فيها، والكواكب المحيطة بها، هي البيئة. فالبيئة تشمل التربة والهواء، والنباتات والحيوانات والطيور والحشرات، والأودية والسهول والجبال، وبطبيعة الحال فالإنسان ركن ركين من أركان البيئة، وهو صاحب الدور الفاعل فيها، وهو المستفيد الأول مما فيها، لذا فهو من خوطب بضرورة العناية به، وكانت هي جزء من الأمانة التي حُمِلَ.
في الآية السابقة جاء قوله تعالى رزقا لكم وتكرر قوله سخر لكم ، ليؤكد على أن الهدف من إيجاد ما ذكر هو أنتم أيها الناس، وحاجتكم لما ذُكِرَ ماسة لا تخفى عليكم، إذاً فهي نعمة تعيشونها لا دور لكم في إيجادها، وإنما دوركم في كيفية استغلالها. والاستغلال الأمثل يقتضي الاستفادة مع التنمية والزيادة.
فارعوا أيها الناس هذه النعمة واشكروها.
وإن الشكر على نعمة البيئة بعد حمد الله والثناء عليه، يكون بأحد أمرين: الحفاظ على الموجود، والعناية بإيجاد المفقود.
وفي الأمر بالحفاظ على الموجود نصوص لا يتسع المقام لذكرها. من ذلك قوله جل وعلا ((وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ ))
الإفساد في الأرض نوعان: إفساد معنوي وإفساد حسي.
الإفساد المعنوي: يكون بالذنوب والمعاصي، فكم دمرت الذنوب والخطايا صروحا من النعم لا تعد ولا تحصى، وعلى هذا فالتوبة المستمرة والاستغفار الدائم وصلاة الاستسقاء هو من السعي في إصلاح الأرض.
والإفساد الحسي: يكون بإتلاف أجزاء البيئة المذكورة سابقا بغير حاجة، أو الإساءة إليها بما يتلفها.
فحاذروا أيها الناس جميعا من الإساءة للبيئة، وأحسنوا إليها، فإن الإنسان مطالب بالإحسان للبيئة كما هو مطالب بالإحسان لغيرها، في الحديث عنه  أنه قَالَ إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ } رواه مسلم.
والبيئة جزء من كل شيء، والإحسان له معنيان: الإتقان والإحكام، والعطف وتقديم الخير والنفع للآخرين.
والإحسان للبيئة بأن لا يتصرف فيها إلا :
1/ محسن للتصرف، عارف ماذا يفعل ومدرك لعواقب تصرفه ولو كان تصرفا بسيطا،
1/وعطوف على الكائنات التي تقوم على هذه البيئة ولو كانت حشرات صغيرة.
ومن التصرف في البيئة القتل للكائنات الحية، والقطع للأشجار والنباتات، وهذا تصرف لا غنى للإنسان عنه، ولكن لابد من الإحسان فيه، والإحسان هنا:
1/ان يكون بقدر الحاجة
2/وفي المكان والوقت المناسبين.
وعدا ذلك يكون إفسادا وتدميرا وإسرافا، موعود فاعله بالمحاسبة الإلهية في ذلك.
في حالة الحرب تشتد المواقف، وتتأزم النفوس، ويجد الناس عادة للجنود مبررا لو تعدى اندفاعهم فتسببوا بقطع الشجر أو هدم بيت عامر، ولكن أبا بكر الصديق رضي الله عنه لم يجد لجنده عذرا في ذلك. فلقد كان يوصيهم: اغزوا باسم الله، لا تقتلوا وليدا ولا امرأة، ولا شيخا مسنا، ولا تهدموا بيتا، ولا تقطعوا شجرة.
حتى في الحرب لا تقطعوا شجرة!! عناية بالبيئة والممتلكات العامة ما بعدها عناية.
وعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ مَرَّ ابْنُ عُمَرَ بِفِتْيَانٍ مِنْ قُرَيْشٍ قَدْ نَصَبُوا طَيْرًا وَهُمْ يَرْمُونَهُ وَقَدْ جَعَلُوا لِصَاحِبِ الطَّيْرِ كُلَّ خَاطِئَةٍ مِنْ نَبْلِهِمْ فَلَمَّا رَأَوْا ابْنَ عُمَرَ تَفَرَّقُوا فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ مَنْ فَعَلَ هَذَا؟ لَعَنْ اللَّهُ مَنْ فَعَلَ هَذَا إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ  لَعَنَ مَنْ اتَّخَذَ شَيْئًا فِيهِ الرُّوحُ غَرَضًا} متفق عليه.
لعنٌ لمن عبث بالكائنات فقتلها ليرميها، أو عذّبها لأجل أن يتدرب عليها.
الصيد متعة ولكن إذا كان لغير حاجة الأكل، أو لغير دفع أذى صائل فهو جرم لا يعذر فاعله.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ  قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ  يَقُولُ قَرَصَتْ نَمْلَةٌ نَبِيًّا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ فَأَمَرَ بِقَرْيَةِ النَّمْلِ فَأُحْرِقَتْ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنْ قَرَصَتْكَ نَمْلَةٌ أَحْرَقْتَ أُمَّةً مِنْ الْأُمَمِ تُسَبِّحُ} البخاري. لم يعذر وهو نبي! وقد أوذي! ذلك أن ردة الفعل تعدت إلى غير الجاني مع أنها حشرات لا يؤبه لها عادة. ولكنه الإسلام يضمن لكل حق العيش بسلام.
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَرْجِسَ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ  قَالَ لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي جُحْرٍ } النسائي
رحمةٌ بالكائنات الحية وحماية لها حتى من البول على جحورها.
وأما القسم الثاني من شكر نعمة البيئة وهو إيجاد المفقود. فصلاة الاستسقاء أيضا هي من العمل على إيجاد المفقود، وكذلك الغرس للشجر حتى ولو خيف قيام الساعة، ولقد منح الغارس ثوابا لغرسه كلما أكل أو استظل بغرسه. فهذا ديننا، دين يشعر الفرد بأهمية بيئته لحياته، ويجعله جزء منها ليحميها وينميها. البيئة خلقت بقَدَر محكم، ولكلٍ بيئة ولكل أناس ما يناسبهم وينفعهم، يقول جل في علاه ((إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ )) فلم يخلق شيء أبدا بلا قيمة، وإلا كان ذلك عبثا تنزه الله وتعالى عنه. والجناية على البيئة بقطع شجرها، أو قتل كائناتها، أو تجريف تربتها، أو العبث برياضها ونباتاتها هو جناية على الأرض ومن فيها.
البرية بالنسبة للناس جميعا هي جزء من حياتهم لا غنى لهم عنها، فمن لم يعش فيها، فلابد له من زيارة لها، يجدد فيها نشاطه، فيها يصفو ذهنه ونَفَسه وبصره، فهي لنا ونحن لها، حاجتنا إليها أكثر من مجرد متعة نقضيها في جوانبها.
وظروفنا البيئية شديدة القسوة، لذا فصحراؤنا تحتاج منا لمعاملة خاصة ملؤها الرأفة والرحمة بكل أطرافها وأجزائها. فإن لم تجد منا ذلك،
فقدنا بهجتها . ولا عذر لنا في فقدها،
وتحولت تربتها إلى أغبرة تملأ مدننا.
إن تصرف أجدادنا بشيء من القسوة تجاه الصحراء فلهم عذرهم فلقد كانت هي طعامهم وشرابهم وهي وقودهم، ولا مصدر لهم غيرها في ذلك، أما نحن اليوم ففي غنى عن أشجار الصحراء وحيواناتها وطيورها: في غنى عن أشجارها إلا من مستظل أو نظرة جمال وإعجاب، ويقوم بحاجتنا للنار في نزهتنا ما أسقطته الأشجار مما استغنت عنه، وكذلك في غنى عن طيورها وحيواناتها إلا من أكل في نزهة وصيد،
فإن تعدى التصرف من التمتع في النزهة والرحلة إلى التخزين والتكديس للحطب وللطيور والحيوانات البرية فهو إتلاف للثروة، وتضييع لأمانة البيئة.
ولكي نحفظ مظاهر الحياة في بيئتنا والتي بالكاد تلوح هنا وهناك فلابد من :
أن يجعل كلٌ منا من نفسه جزء من البيئة، يحس بإحساس كائناتها ونباتاتها فيرحمها ويحميها من كل عبث، ويعد العدة لحمايتها كما يعد العدة للتمتع بها.
وان نحيي الألم في نفوس أفرادنا تجاه التصرفات الخاطئة من قبل بعضنا تجاه بيئتنا .
ولا ألم أشد من ألم شجرة اجتثت أو قطع بعض أغصانها وهي التي ظلت تكافح سنوات طوال لكي تنهض على ساقها، وتقف شامخة في أشد الظروف البيئية قسوة، تفرح بقطرة مطر بعد طول جفاف يعيد لها نضرتها، تكافح في البقاء لعل أجيال من البشر والطيور والحيوانات تتمتع بها، ثم يأتيها سفيه يجتثها أو يقتطع جزء منها لأجل متعة إشعال نار!!
مع ان ما في السوق هو أجود منها، وأوفر له من تكاليف الوصول إليها وقطعها وحملها.
ويزيد السوء سوء والألم ألم حينما تشاهد آثار نار قد أوقدت في أصل الشجرة تذريا بها عن الهواء!! فإن سلم الجذع فإن الجذور هالكة.
وكذا من المشاهد المؤلمة التي يجب أن تحي في نفوس ويتألم لأجل مرآها: مشاهد النفايات التي غزت البر والبحر، والتي كان بالإمكان تلافيها لو اعتنى المتنزه بجمعها ثم نقلها أو حرقها أو دفنها.
وما اشد الألم اليوم على كل زائر للبرية، حينما يرى النفايات التي يصعب تحللها كالبلاستيك والزجاج ونحوها وبقايا الأطعمة ومخلفات عدة ملقاة في كل مكان وبالأخص أماكن الجلوس، فلا يملك المرء إلا الحسرة وقد تنطلق منه دعوة تجاه ملقيها عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ  اتَّقُوا الْمَلَاعِنَ الثَّلَاثَةَ الْبَرَازَ فِي الْمَوَارِدِ وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ وَالظِّلِّ} أبو داود والنفايات لا تزول من نفسها ، والبيئة لا تنظف نفسها، وهذه النفايات تحرم الناس المتعة وتجلب سخطهم ودعواتهم.
لقد ابتلينا بفئام من الناس شيبا وشبانا لا يلقون للصحراء وزنا، يأخذون ولا يبذلون، متعتهم تدمير البيئة وتشويهها. ثم يفتخرون بأنهم من أهل البر وما هم في الحقيقة إلا عدو وليس أهلا.
إن لجمع الحطب متعة، ولكن إذا كان جمعا واكتشافا لما استغنى عنه الشجر، وأما إن كان قطع وتكسير فهو جناية ونقمة.
وإن للصيد متعة، إن كان للأكل لحظتها وأما إن كان للتخزين والتكديس فهو جناية ونقمة.
وإن للتجول بين الرياض لمتعة، وإن للنفس وللأسرة حق في النزهة، كل ذلك متعة إذا اقتصر الأمر على نظرة لخضرة، أو استنشاق لعبير زهرة، أو استماع لتسبيحة طير، أو لهو ومرح يبهج النفس ولا يضر الأرض. فإن تعدى الأمر لتشويه نضرة النبات بغبار الأرض تثيره السيارات المندفعة، أو أتلف بعضه لأجل الوصول إلى مكان نضرٍ منه، فتلك جناية ونقمة.
المتعة في الرحلة هي في نظرة لإشراقة الربيع، وللمكان وقد ترك أفضل من لحظة القدوم إليه فالشوك قد أزيل والمكان رتب وهيئ لزائر جديد.
والنشوة الحقة في البرية هي في نسمة هواء مشبعة بعبق الزهر، وبتغريدة طير أعلنت تسبيحا لله وتمجيدا،وأعلنت فرحة وتنبأ بأجواء أفضل، ولذا تجد لدى العقلاء عطفا على البيئة في قيادة سياراتهم، وعطفا في استغلال خيراتها، وعطفا بحماية ما يرجى له حياة فيها، وعطفا بإزالة الأذى عنها.
إن للصحراء ولزوارها من غيرنا وللأجيال القادمة حق علينا أن نحسن العمل في نزهتنا،
ولسكانها من طيور وبهائم وحيوانات برية وحتى الحشرات حق في العيش بسلام فيها.
والإحسان واجب علينا. البيئة كسائر النعم التي ننعم بها، هي معارة لنا وليست ملكا، نتمتع بها وسنحاسب على الإساءة لها، ما كان موجودا من شجر أو حيوان أو طير فلنحافظ عليه، وما كان مفقودا فلنعمل على إيجاده.
البيئة عبارة عن كائنات يكمّل بعضها بعضا، وإن أزيل أحدها تضررت جميعها. ونحن بعض منها، فلنحافظ عليها لنحفظ لنا بعضنا.
أسأل الله أن يمن علينا بغيث عميم يعيد للأرض حياتها وإشراقتها، وأن يلهم زوار البرية الرأفة والرحمة بها فتبقى نضرة مزهرة لتكون ذخرا للمتعة في قادم الأيام وزادا لقادم الأجيال وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين أجمعين


الشيخ / خالد بن عبدالله بن علي الجبير
جامع منيرة التويجري _ حي المروج في المجمعة
الجمعة 21/2 /1431هـ