عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 2009-11-02, 12:51 AM
القاريء القاريء غير متواجد حالياً
عضو متميــز
 
تاريخ التسجيل: Jan 2008
الدولة: الرياض
المشاركات: 400
جنس العضو: ذكر
القاريء is on a distinguished road
افتراضي

استمطار السحب، والأدلة الشرعية على ذلك، وأنواع وأسباب وشروط الاستمطار، وأدواته وطرقه وأوقاته ونتائجه، وحكم الاستخدام السيئ للاستمطار والأضرار التي تنتج عن ذلك: ويتضمن ما يلي: الأول: مفهوم الاستمطار والأدلة الشرعية عليه: الاستمطار: من استمطر، والمطر الماء المنسكب من السماء، وهو ماء السحاب، والجمع أمطار، يقال: مطرتهم السماء تمطرهم مطراً وأمطرتهم: أصابتهم بالمطر، وهو أقبحها، ومطرت السماء وأمطرها الله، وقد مطرنا، وناس يقولون: مطرت السماء وأمطرت بمعنى، وأمطرهم الله مطراً أو عذاباً(3)، قال تعالى: (وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ) (النمل:58)، وقال سبحانه وتعالى: (وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ) (هود: من الآية82)، جعل الحجارة كالمطر لنزولها من السماء(4)، والممطر والممطرة بوزن المبضع وهو ما يلبس في المطر يتوقى به(5)، والاستمطار: الاستسقاء، قال الفرزدق(6): استمطروا من كل قريش كل مُنْخَدِعِ أما الاستمطار: فهو الاستسقاء، والاستسقاء لغة: هو استفعال من السقيا، والسقيا بضم السين: الاسم من السقي(7)، أي طلب السقي وإعطاء ما يشربه، أنشد أبو طالب عم النبي في مدحه صلى الله عليه وسلم(8): وأبيض يستسقي الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل وشرعاً: طلب السقي من الله، لقحط نزل بهم، أو غيره، بكيفية مخصوصة(9)، عند شدة الحاجة، بأن يحبس المطر، ولم يكن لهم أودية وآبار وأنهار يشربون منها، ويسقون مواشيهم وزرعهم، أو كان ذلك، إلا أنه لا يكفي، فإذا كان كافياً لا يستسقى(10)، قال تعالى: (وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً) (البقرة: من الآية60)، أي جعل بين ظهرانيهم حجراً مربع، وأمر موسى عليه السلام فضربه، فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً، في كل ناحية منه ثلاث عيون(11). يفهم من هذا أن الاستمطار الذي يحمل معنى الاستسقاء جائز وضروري عند انحباس المطر، وبدون سحاب لا يكون؛ لأن السحب هي التي توزع الماء العذب على القارات، ويغذي المطر والثلج والبرد كلاً من العيون والوديان والأنهار والمياه الجوفية، ويتواصل نزول المطر من السحاب على الأرض منذ مليارات السنين، ولكن علم الإنسان بأجمعه غير قادر على أن يوضح سر هذا المطر(12). إذا فهمنا هذا: نقول ليس عندنا من الأدلة القرآنية وغيرها ما يمنع من التعامل مع السحب – لأنها هي التي توزع الأمطار كما أشرنا – بأساليب وطرق علمية مبتكرة تتعلق بشحنها أو تلقيحها بمواد تجعلها تزيد أو تسرع في المطر؛ لأن العملية أولاً وأخيراً هي استمطار أو استسقاء فعلها النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته، وأجمع عليها الفقهاء، لكن مع اختلاف الأسلوب والطريقة حسب الزمان والمكان، وحسب التطورات العلمية التي تشهدها الأجيال، لكن قبل أن نغوص في حيثيات وجزئيات البحث نقرر سلفاً أن استمطار المطر بشحن السحب أو تلقيحها – بوسائل علمية وتكنولوجية مخترعة – لتستمطر لا يعني أبداً تحدي عوالم الله العجيبة، بل تسخير وإعمال لهذه العوالم بموجب المصالح الكثيرة التي تسعى الشريعة إلى تحقيقها لبني الإنسان وهذه هي الأدلة: أولاً: القرآن الكريم: قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ) (النور:43)، وقال عز من قائل: (وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ) (الحجر:22)، وقال سبحانه وتعالى: (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (الأعراف:57)، وقال سبحانه وتعالى: (وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ) (فاطر:9). نقول: إن هذه الآيات تعلمنا شيئاً عن العلاقة بين المطر والرياح والسحاب بطريقة علمية، تجعلنا نقترب كثيراً لفهم مبدأ الاستمطار بصورته المبسطة وكيفياته وحكمه، فماء المحيطات والبحار يتبخر بفعل الطاقة الشمسية، أي أن الماء المائع يصبح غازاً لا يرى مثل الهواء، فتحمل الرياح هذا الغاز الساخن وتصعد به إلى الطبقات الجوية العليا، فإذا التقى هذا الغاز بأجسام باردة كجبل مرتفع مثلاً أو رياح باردة في الطبقات العليا من الجو، ترك حرارته ورجع مائعاً على شكل قطرات صغيرة جداً، يكون حجمها جزءاً من ألف من المليمترات تقريباً، فلا تسقط هذه القطرات على سطح الأرض للزوجتها في الهواء بسبب حجومها الصغيرة، ثم تأتي السحب التي فيها مطر – ولكنه ضعيف لا ينزل على الأرض لضعف السحابة – تحملها الرياح، فيتم تلقيح السحابة بواسطة الرياح، وهذا هو اللقاح الأول، ويتم من مزج شيئين أحدهما بارد والآخر ساخن، لكن لا يتحول البخار ماءً بمجرد اتصاله بشيء بارد، بل ينبغي على الرياح أن تحمل معها (مراكز تمييع) وهي قسيمات مجهرية من الغبار الذي تثيره من سطح الأرض إلى السماء، وهكذا يقع تلقيح الهواء، ليصبح سحاباً، وتصبح الرياح بهذه الصفة(13). إن القطرات التي يتكون منها السحاب مشحونة كهربائياً، إما سالبة كلها، وإما موجبة كلها، وإما نصفه الأسفل من نوع كهربائي، ونصفه الأعلى من نوع آخر – وهذه الكهرباء تجعل قطرات السحاب لا تتجمع، بل تدفع بعضها بعضاً – وتحمل الرياح هذا السحاب إلى أن يلتقي إما بسحاب آخر أو جبل، أو أي مرتفع ذي كهرباء مضادة، فتتصل الكهرباء السالبة بالكهرباء الموجبة، فيتكون تلقيح من نوع آخر، وهذا هو النوع الثالث من التلقيح، تكونه الرياح للسحاب، وينشأ عنه البرق ثم الرعد، فيصبح السحاب محايداً لا كهرباء فيه، فتتضخم قطراته بسرعة وتسقط على الأرض في شكل مطر، أو إذا كانت البرودة شديدة، في شكل ثلج، وهذا لا يقع إلا بإذن الله، فهناك سحب لا يسقط منها مطر ولو نشأ الرعد فيها، وهناك سحب صغيرة بدون رعد تنشأ عنها أمطار غزيرة كل ذلك بإذن الله(14). ثم على الوجه الآخر يقول الحق جل وعلا: (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ) (الرعد:12)، أي ثقيلة قريبة من الأرض بسبب امتلائها بالماء(15)، وقال سبحانه وتعالى: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً) (نوح:10-11)، قال الإمام القرطبي في تفسيره: (في هذه الآية دليل على أن الاستغفار يستنزل به الرزق والأمطار)(16)، ولا شك أن الاستغفال هو طريق وواجب أولي للاستمطار، فكيف لو اقترن بفعل على الواقع يتعامل فيه مع السحابة! لأن الرزق سببه المطر أو أن المطر سبب في الرزق، وقال عز من قائل: (وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ) (هود: من الآية52)، أي يرسل السماء بالمطر متتابعاً يتلو بعضه بعضاً(17)، فعلق إرسال المطر بالاستغفار(18)، وقال سبحانه وتعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) (الأعراف: من الآية96)، وقال سبحانه وتعالى: (فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ) (الحجر: من الآية22)، وقال سبحانه وتعالى: (وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً) (البقرة: من الآية60)، وقال سبحانه وتعالى: (لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَاماً وَأَنَاسِيَّ كَثِيراً) (الفرقان:49)، وقال سبحانه وتعالى: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ) (الأعراف: من الآية160)، وقال عز من قائل: (وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ) (الشعراء:79). فهذه الآيات تنهض بمجموعها لتؤيد فكرة الاستمطار بالطرق العلمية المبتكرة، فإذا كانت العوالم المخلوقة جميعها مسخرة للإنسان من أرض كذلول، ومن سماء كركوب، ومن فضاء كهبوط وصعود، ومن سحب لتنزيل المطر، فلا داع أن يظن أن هذه الأخيرة أعظم شأناً، وأبعد منالاً كي يتحرج الإنسان من التعامل معها أو الوقوف أمامها موقف العجز والكسل أو الذي لا حول له ولا طول، لا سيما وأن الآيات القرآنية حدثتنا عنها إلى حد بعيد، وبالأخص في مثل النوع الثقيل (السحاب الثقال) القريبة من الأرض التي تعزم على إفراغ حمولتها من المطر، وهذا يعني أن نوعاً أو أنواعاً أخرى بعيدة أو قريبة من الأرض، لكنها غير ثقيلة، فتحتاج إلى تلقيح بقذف بلورات أو مساحيق أو أبخرة – مما استطاع العقل البشري تصنيعه – كمساعد لها في التكاثف والهطول. هذا، وإذا وجدنا من يزعم أننا بعدنا عن الجادة وضللنا الطريق بقولنا: إن السحب تستمطر، والقابلية لشحنها بمساحيق أو بلورات موجودة – مستدلاً بآيات القرآن الكريم في مثل قوله تعالى: (أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ) (الواقعة:68-70)، وقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (لقمان:34) – فنجيب أن هذه فيها دلالة على المؤيدين لفكرة الاستمطار لا الشاجبين، لأن إنزال المطر من مفاتيح الغيب التي لا يعلمها إلا الله وحده، ولا يعلمها أحد إلا بعد إعلامه تعالى بها، وهذا أولاً. وثانياً: إن كل ما يفعله العالم المجرب والمكتشف للمطر الصناعي هو فقط تجارب على عوالم موجودة ومثبوتة في ملكوت الله عزوجل الواسع، وليس إحداث شيء من العدم، والتجارب إما أن تؤول إلى نجاح أو إلى فشل، فإذا نجحت فذلك شيء علمه الله لمن شاء من خلقه، وإذا فشلت فشيء حجبه الله عمن شاء من خلقه، وفي هذا يقول ابن كثير: (وكذلك إنزال الغيث لا يعلمه إلا الله، ولكن إذا أمر الله به علمته الملائكة الموكلون بذلك، ومن يشاء من خلقه)(19)، وبمثل المعنى نفسه يقول ابن عباس: إن بخار الماء لفي نقرة إبهامه (يقصد ملك الرعد الذي يسوق السحاب والموكل به بحيث يصرفه حيث يؤمر)(20). ثانياً: من السنة: عن أنس بن مالك أن رجلاً دخل المسجد يوم جمعة من باب كان نحو دار القضاء ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً، ثم قال: يارسول الله، هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فادعُ الله يغثنا. قال: فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه ثم قال: "اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا" قال أنس: ولا والله ما نرى في السماء من سحاب ولا قزعة، وما بيننا وبين سلع من بيت ولا دار، قال فطلعت من ورائه سحابة مثل التّرس، فلما توسطت السماء انتشرت، ثم أمطرت قال: فلا والله ما رأينا الشمس سبتاً، قال: ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة المقبلة ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب، فاستقبله قائماً فقال: يا رسول الله، هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فادعُ الله يمسكها عنا. قال: فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه، ثم قال: "اللهم حولنا ولا علينا، اللهم على الآكام والضراب، وبطون الأودية، ومنابت الشجر"(21) فانقلعت وخرجنا نمشي في الشمس. فالاستمطار الذي هو استسقاء تم بواسطة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم كما أن انحسار الماء وتوقفه تم – أيضاً – بدعاء الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو الذي علّمنا ذلك، وجرى على هذا الخلفاء والأمراء والفقهاء والعلماء وإلى وقتنا هذا. فكلما حز بالمسلمين جفاف أو انقطاع من الأمطار توجهوا إلى الله عز وجل يستسقونه، ويطلبون منه إنزال رحماته وبركاته على الأرض، فما يكاد المسلمون يرجعون من صلوات الاستسقاء وأدعيته إلا وترى الأمطار تنهمر مدراراً. وفي حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج متواضعاً متبذلاً، متخشعاً، فصلى ركعتين، كما يصلى في العيد، لم يخطب خطبتكم هذه(22). وفي حديث أبي هريرة قال: (خرج نبي الله صلى الله عليه وسلم يوماً يستسقي، فصلى بنا ركعتين بلا أذان ولا إقامة، ثم خطبنا ودعا الله عز وجل، وحول وجه نحو القبلة رافعاً يديه، ثم قلب رداءه، فجعل الأيمن على الأيسر، والأيسر على الأيمن)(23). وفي حديث عبد الله بن زيد قال: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يوم خرج يستسقي، فحول إلى الناس ظهره، واستقبل القبلة رافعاً يديه، ثم قلب رداءه، فجعل الأيمن على الأيسر، والأيسر على الأيمن)(24). وفي حديث ابن أبي ذئب عن الزهري عن عباد بن تميم قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يوم خرج يستسقي قال: فحول إلى الناس ظهره واستقبل القبلة يدعو، ثم حول رداءه، (ثم صلى لنا ركعتين جهر فيهما بالقراءة)(25). يُفهم من هذه الأحاديث أن فعل الاستسقاء مسنون، ومثله الاستمطار. ثالثاً: من الإجماع: أجمع الفقهاء على جواز الاستسقاء (الاستمطار) مع خلاف بينهم حول بعض تفصيلاته المتعلقة بالصلاة والدعاء وأشخاص الاستمطار وهيئاته وذلك كالتالي: يرى أبو حنيفة – رحمه الله – في ظاهر الرواية: أنه لا صلاة للاستمطار أو الاستسقاء، وإنما فيه الدعاء، وأراد لا صلاة في الاستسقاء: الصلاة بجماعة، أي لا صلاة فيه بجماعة، بدليل ما رواه أبو يوسف أنه قال: سألت أبا حنيفة عن الاستسقاء هل فيه صلاة أو دعاء مؤقت أو خطبة؟ فقال: أما صلاة بجماعة فلا، ولكن الدعاء والاستغفار، وإن صلوا وحداناً فلا بأس به(26). يفهم من كلام أبي حنيفة أن الاستسقاء أو الاستمطار يكتفى فيه بالدعاء، لأنه السبب لإرسال الأمطار، لقوله تعالى: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً) (نوح:10-11)، ورسول الله صلى الله عليه وسلم استسقى، ولم يرو عنه الصلاة. وقد رد الحافظ الزيلعي بأن استسقاءه عليه الصلاة والسلام صحيح وثابت، أما أنه لم يرو عنه صلاة الاستسقاء فغير صحيح، بل صح أنه صلى فيه، وليس في الحديث أنه استسقى ولم يصل، بل غاية ما يوجد ذكر الاستسقاء، دون ذكر الصلاة، ولا يلزم من عدم ذكر الشيء عدم وقوعه(27). ويرى الصاحبان وجمهور الفقهاء أن للاستمطار أو الاستسقاء صلاة، وأنها سنة بالاتفاق، وأن الخروج إلى الاستسقاء والبروز عن المصر والدعاء إلى الله تعالى والتضرع إليه في نزول المطر سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ما احتيج إليها، صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه رضي الله عنهم، وتكرر ثانياً وثالثاً وأكثر، إن لم يسقوا، حتى يسقيهم الله تعالى، فإن الله يحب الملحين في الدعاء(28). ويرى المالكية للاستمطار أو الاستسقاء صلاة، فإن أمطروا بعد تأهبهم لصلاتها صلوها لطلب سعة، روى أبو مصعب عن مالك: البروز إلى المصلى للاستسقاء لا يكون إلا عند الحاجة الشديدة، ومثل المالكية الشافعية، حيث يجتمع المصلون للدعاء والشكر، ولو سقوا في أثنائها (أي أثناء الصلاة) أتموها جزماً(29). ويرى الحنابلة أنهم إذا أمطروا قبل الخروج للاستمطار لا يخرجون، إنما يشكرون الله على نعمته، ويسألوه المزيد من فضله، لكن إذا خرجوا وأمطروا قبل الصلاة، صلوا شكراً لله تعالى مع التحميد والدعاء (30). ويرى الظاهرية أن الاستمطار أو الاستسقاء دعاء مع صلاة ركعتين(31). يفهم من هذا أن الفقهاء متفقون على التعامل مع السحب والغيوم لاستمطارها بالدعاء والصلاة لله عز جل بأن تمطر، فإن قيل: إن هذه الصلاة لا علاقة لها بالصعود العلمي المعروف اليوم إلى الجو لشحن الغيوم أو تلقيحها لتستمطر، فنجيب أن الصلاة نوع أو أسلوب من الأساليب الكثيرة للتعامل مع العوالم الكونية الخاضعة لأمر الله بالصدع والاستجابة، وبالتالي يصح أن يتعامل مع هذه العوالم بأساليب أخرى لاستمطارها، زيادة على الصلاة، تبعاً للتقدم والاكتشاف العلمي، فالرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته والخلفاء من بعدهم استسقوا بالخروج إلى الصحراء متذللين متواضعين عليهم ثياب خلقة غسيلة، وبعضهم استسقى بالأطفال والشيوخ والعجائز(32)؛ لأن دعاءهم أقرب إلى الإجابة، وبعضهم استسقى بالدواب والمجانين(33)؛ لأن الرزق مشترك بين الكل، وبعضهم استسقى بذوي الصلاح والدين من الناس؛ لأنه أسرع في استجابتهم، وبعض المخلوقات كالنملة مثلاً استسقت بالاستلقاء(34)، فكل الطرق السالفة الذكر أساليب، فلا يعدو – والحالة هذه – أن يكون تلقيح السحب واستمطارها واحدة من تلك الأساليب، أو مضافة إلى تلك الأساليب، أو طريقة من الطرق الممكنة، وإن اختلفت الوسيلة تبعاً للزمان والمكان، ما دام ذلك فيه التزام بقواعد الشريعة، وعدم خروج على قواعدها العامة ومبادئها الأصلية. رابعاً: من العقل: إن العقل يشتد توقانه لأن يعتقد أو يصدق من أن الاكتشافات العلمية أوصلت الإنسان إلى أن يتعامل مع عوالم الله العجيبة مثل السحب والغيوم، ويستسقيها أو يستمطرها على هدي من تعليمات الشريعة، طالما أنها في الأصل خلقت لمصلحة الإنسان وفائدته، بشرط أن يتنبه الأخير إلى المحددات الشرعية التي تسح له بولوج هذا النوع من الاكتشاف والبحث في علم الله الغزير الذي سخره له، وذلك حتى لا تؤدي به تجاربه إلى خيبة أمل يجنيها على نفسه، وعلى الإنسانية جمعاء، مما يدخل في نطاق العلوم المحرمة أو المرفوضة، مما سنتحدث عنه لاحقاً في مبحث الاستخدام السيئ للاستمطار، كما لو زعم أحدهم أن فعله هذا كان على غير مثال سابق، أو استحداث مطر من العدم مما لم ينبه عليه القرآن الكريم ولا السنة النبوية، فالاستمطار ليس إحداث شيء من العدم، أو اختراع من غير ما مثيل من تعليمات الشريعة، إنما هو اكتشاف وتجارب مؤيدة بنصوص الشريعة مع العمل الدؤوب والحث المستمر – بعد التوكل على الله – لزيادة كميات المطر أو تسريعها، ولا سيما في مثل السحب القابلة أصلاً للمطر أو التي تحتاج إلى مساعدة في زيادة كمية المطر، وذلك كالحيوان الذي يزاد في تغذيته لتزداد كميات حلبه ومراتها. الثاني: أنواع الاستمطار وأسبابه وشروطه: إذا عنينا بالاستمطار الاستسقاء فليس له إلا نوع واحد أو طريقة واحدة وهي الطريقة التي تحدث عنها القرآن الكريم عندما تأتي السحابة أو السحب المحملة أو المثقلة بالأمطار لتلقي بها على الأرض الجدباء الميتة – لتبعث فيها الحياة من جديد. أما إذا عنينا بالاستمطار – بطرقه العلمية الحديثة التي تقوم على محاولات الإنسان استمطار السحب لزيادة تكثيفها وإسقاطها للماء – مما يندرج في باب الإعجاز العلمي القرآني، الذي لم يسهب الرسول صلى الله عليه وسلم الحديث عنه، ولا أسهب به الفقهاء من ناحية علمية، ولم يوردوه في استدلالاتهم كما هو اليوم، وذلك لأمرين ذكرناهما سابقاً وهما: الأول: انشغالهم بالدعوة الإسلامية ومجرياتها، مما حال بهم إلى عدم التركيز على الاكتشافات والاختراعات كما هو مشاهد اليوم، وذلك لأن طبيعة رسالتهم كانت منصبة على التوحيد. الثاني: اختلاف الزمان والمكان والأحوال التي كان عليها الأوائل، فلم يكن همهم الأول ينصب على الكواكب والفضاء بقدر ما هو منصب على العقيدة وتثبيت أركان الدولة الإسلامية، حتى إذا ما تعمق التوحيد وترسخت جذوره ومفاهيمه انطلقوا إلى المواضيع الأخرى العلمية وغير العلمية، والدليل على ما نقول معرفتهم الكبيرة بالكواكب وحركات الأنواء والسفن مما يجعلنا نقرر أن أمر الاستمطار لو تهيأت ظروفه، وطال زمانه وزمانهم لخاضوا فيه، وتمكنوا منه – فيبدو أن طرقه كثيرة لأنها تقوم أصلاً على نظريات علمية متعددة. أما أسباب الاستمطار وشروطه فكالتالي(35): 1- المحل والجدب. 2- الحاجة إلى شرب شفهاهم أو دوابهم ومواشيهم في سفر في صحراء أو في سفينة أو في الحضر. 3- استسقاء من لم يكن في محل ولا حاجة إلى الشرب، وقد أتاهم من الغيث ما إن اقتصروا عليه كانوا في دون السعة، فلهم أن يستسقوا. 4- استسقاء من كان في خصب لمن كان في جدب ومحل. 5- شرط الذكورة، فلا يخرج للاستمطار النساء على المشهور عند المالكية(36)، ومثله – على ما أرى – صعود النساء إلى طبقات الجو لاستمطار السحب، أو عملهن في المحطات الأرضية، وذلك لصعوبة الفعل من جهة، وكذلك اختلاطهن بالرجال على الأرض من جهة أخرى، مما يسبب لهن مضايقات، وهذا يدخل في نظرة الشريعة الكلية إلى مجال عمل المرأة، من باب درء المفاسد، والمحافظة على المصالح، اللهم إلا عند الضرورة، مع التأكيد على أن الضرورة يجب أن تقدر بقدرها، ويرى الحنفية والشافعية أن النساء اللاتي لا هيئات لهن يخرجن لصلاة الاستسقاء، ومثلهن الأطفال والشيوخ والعجائز(37)، لخبر البخاري: (وهل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم)(38)؛ لأن دعاء هؤلاء أقرب للاستجابة. 6- شرط الإسلام، إذا اعتبرنا أن التعامل مع السحب لاستمطارها هو نوع عبادة – وهو الأصل – فالأفضل أن يكون المستسقي أو المستمطر مسلماً، وهذا رأي الحنفية(39)؛ لأنه لاستنزال الرحمة مع الدعاء والاستغفار، وهذه لا يصلح لها الذمي أو غير المسلم، أما إذا اعتبرنا الاستمطار نوع فن وعمل اكتشافي محض – وهو بعيد – فلا يمنع منه الذمي أو غير المسلم؛ لأن دعاء الكافر قد يستجاب استدراجاً وطعمة في الدنيا(40)، قال تعالى: (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) (الأعراف: من الآية182)، والله سبحانه وتعالى ضمن أرزاقهم في الدنيا كما ضمن أرزاق المؤمنين. 7- شرط التواضع والتضرع والتذلل والابتذال أي في ثياب البذلة، لا ثياب الزينة، وعدم التطيب، والخشوع أثناء الصعود والهبوط وساعة التعامل مع السحب، إقراراً واعترافاً بالحاجة الملحة والرغبة فيما عند الله عز وجل. 8- شرط عدم إسناد حقيقة الفعل أو بركات الإمطار إلى السحابة ذاتها أو الغيمة عينها، أو مادة الشحن، أو المحطة التي هيأت المطر؛ لأنه لا قيمة للغيوم والسحب من غير ترتيب الإله وتثبيته، فمن قال: مطرنا بنوء كذا – أي بوقت النجم الفلاني، أو بالسحابة العلانية، كما كان هي عادة بعض العرب – فقد كفر؛ لأنه اعتقاد في غير محله، وعليه يحمل ما في الصحيحين حكاية عن الله تعالى: (أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب، ومن قال: مطرنا بنوء كذا، فذاك كافر بي مؤمن بالكواكب)(41). 9- شرط عدم سب الريح، أو سب العوامل المساعدة الأخرى التي تساعد في عملية الاستمطار من حرارة ورطوبة ومناخ وغيره، وذلك لخبر: (الريح من روح الله – أي رحته – تأتي بالرحمة، وتأتي بالعذاب، فإذا رأيتموها فلا تسبوها، واسألوا الله خيرها، واستعيذوا بالله من شرها)(42)، بل يقول كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها، وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به)(43)، (اللهم اجعلها رحمة، ولا تجعلها عذاباً، اللهم اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً)(44). 10- شرط توقي الرعد والبرق ما أمكن، فإذا كنا نعزم على التعامل مع الغيوم والسحب لاستمطارها، فليس من الأوقات المفضلة حالات البرق أو الصواعق؛ لأن الأخيرة تكون – على الغالب – علامات على الإمطار أصلاً، فضلاً عن أنه في مثل تلك الحالات على المستمطر أن يردد قوله تعالى: (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ) (الرعد: من الآية13)، ويستحب أن لا يتبع بصره البرق؛ لأن السلف الصالح كانوا يكرهون الإشارة إلى الرعد والبرق ويقولون عند ذلك: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، سبوح قدوس)، فيفضل الاقتداء بهم في ذلك. هذا، وإذا كان شأن الإنسان العادي أن يفعل الذي ذكرناه في أحوال البرق والرعد فمن باب أولى من تسند له مهمة الاستمطار بواسطة المحطات الأرضية، أو بواسطة الأجهزة والمعدات اللازمة التي تعد لشحن السحب، كما في طائرة نثر الغيوم من الجو. صفوة القول: علينا – ونحن نهيم بالاستمطار – أن نتتبع الشروط والأسباب السالفة الذكر، دون استشعار العظمة في أنفسنا، أو استشعار صنع المعجزات، وذلك حتى لا تأخذنا العزة بالإثم، فنقدم على فعل لا قبل لنا به، أو نحكم على نظرية من النظريات بالصحة والواقعية مع أنها غير قابلة للتصديق أصلاً، وخاصة إذا كانت مخالفة لنصوص الشريعة وروحها الغراء، أو نحكم على نظرية أخرى بالفشل مع أنها في الواقع قابلة للتصديق والتطبيق.

يتبع