عرض مشاركة واحدة
  #8  
قديم 2008-06-10, 03:50 PM
الباحث الصغير الباحث الصغير غير متواجد حالياً
عـضـو جـديـد
 
تاريخ التسجيل: May 2008
الدولة: دومة الجندل
المشاركات: 58

الباحث الصغير is on a distinguished road
افتراضي


فرسان واللؤلؤ
الإنسان ابن بيئته كما يقولون، وبطبيعة الحال فإن البيئة تفرض عليه أن يتأقلم معها وتفرض عليه نوع الحياة التي يجب أن يعيشها. والبحر بجماله الأخاذ ومعطياته المتنوعة الوفيرة غالباً ما يجتذب سكان السواحل إلى امتطاء أمواجه وارتياد أعماقه للحصول على تلك المعطيات خاصة إذا كانت ذات قيمة مالية كبيرة كاللؤلؤ الذي توجد مناطق صيده بكثرة على سواحل هذه الجزيرة أو الجزر المجاورة لها. ومن هذا المنطلق فرض البحر على سكان جزر فرسان حياة خاصة من الناحية المعيشية والاقتصادية. فهي ليست ذات موارد مائية تساعد على الزراعة فيها، وإن الزراعة البسيطة الموجودة بها ليست إلا استثناء في حياة سكان هذه الجزر أو من الشواذ اللواتي تثبت القاعدة، فهي حياة زراعية لا تكاد تذكر إذا قورنت بغيرها خاصة وأنها تعتمد على الأمطار غير المنتظمة في الغالب. ومن ذلك كله اتجه هؤلاء الناس إلى البحر يجوبون أرجاءه ويغامرون بحياتهم في مداه الواسع، ويقضون الأسابيع بعيدين عن الأهل والوطن يصارعون أمواجه وأنواءه ويستمتعون بسويعات تجمعهم فيها لياليه المقمرة أحياناً، والضاحكة نجومها أحيانا أخرى فيرسلونها آهات وزفرات شجية خلفت لنا ثروة هائلة من الألحان والكلمات الرقيقة التي أبدعها الحرمان والفراق والمعاناة. لقد كانت السفن الفرسانية تسافر إلى الغوص في مواسم معينة من العام بحثا عن اللؤلؤ الذي توجد مصائده قريبة من شواطئ هذه الجزر أو بالقرب من الجزر المجاورة لها الواقعة على الساحل الجنوبي الغربي للبحر الأحمر مثل جزائر «دهلك» ثم تعود محملة بالمحصول الجيد الوفير الذي يتركز فيما بعد في أيدي قلة من تجاره المشهورين إذ يقومون بشرائه من الغواصين في الأسواق المحلية، وعندما تتجمع لديهم الكميات التجارية الكافية للتسويق والبيع في الخارج فإنهم يسافرون لبيعه في «عدن» عندما كانت سوقاً مفتوحة أو في إمارات الخليج العربي آنذاك «دول الخليج حالياً».
وللحقيقة والتاريخ فإن الحياة المليئة بالشاعرية والوجدان والكفاح والمعاناة والانصهار قد شوه ملامحها تجبر وجشع أصحاب رؤوس الأموال وملاك السفن الذين كانوا يسلطون سيوف جشعهم وطموحاتهم المادية على المشتغلين بالغوص الذين كانوا يقضون الشهور والأيام بعيدين عن أهلهم وذويهم بحثا عن الجوهر الثمين «اللؤلؤ» هؤلاء التجار أو من يسمونهم «بالنواخيذ» كانوا يعطون هؤلاء الغواصين من بضائعهم ما يقيمون به الود أو ما يخرجهم قليلا من دائرة الكفاف، فهم يعطونهم ما يدعونه «السلاك» وهو بعض المواد الغذائية الضرورية كالذرة والدقيق والسمن وزيت السمسم والسكر وقشر البن، وكذلك يعطونهم «الوسية» وبعض النقود لشراء بعض احتياجات الأسرة كالسمك والحطب وأشياء أخرى، جانبية، هذا السلاك وهذه الوسية يعطيها البحار لأسرته قبل سفره لينفقوها أثناء غيابه بحذر شديد، وهي في الوقت نفسه مقيدة «مسجلة» عليه بدفتر الناخوذة بأسعار قد تصل إلى ضعف ثمنها العادي بحكم أنها مال معطل عن التحرك التجاري، وهذا ما يجعل البحار دائما مدان للناخوذة بالإضافة إلى أنه عندما يأتي بمحصوله من اللؤلؤ إن رزقه الله فالناخوذة هو الذي يحدد أسعار الشراء وبالثمن الذي يناسبه، وبطبيعة الحال فإن هذه الأسعار تقل كثيرا عن الأسعار الحرة في السوق، وفي هذه الظروف يجد البحار نفسه مرغما على البيع بتلك الأسعار الجائرة، فإذا ما تمرد على ناخوذته أقام الدنيا عليه وأقعدها وطالبه إما بتسديد الديون التي قد أرهقه بها أو البيع منه مجبرا. وأحيانا يكون البحار عنيدا ويلجأ إلى ناخذوة آخر يقوم بشراء محصوله منه وبتسديد الديون التي عليه للناخوذة الأول، ولكن المسكين يكون كما قال الشاعر: كالمستجير من الرمضاء بالنار. ومن الأشياء القاسية أيضاً أن من حق الناخوذة الدائن بتسفير الغواص إلى الغوص مع من يريده الناخوذة وغالبا ما يقع الاختيار على سفينة اشتهر ربناها بالقسوة والشراسة. وإلى كل هذا تضاف صور خشنة جدا منها إصابات بعض البحارة بمرض الأسقربوط «نزيف الدم من اللثة» الناتج عن نقص فيتامين «ج» ومنها تقنين ماء الشرب أثناء فترة الغوص حيث لا يوجد منه سوى كميات في آنية فخارية يسمونها «مواعين» يتسع الواحد منها لعشر صفائح وربما اثنتي عشرة صفيحة. كذلك توجد قوارير زجاجية كبيرة تتسع الواحدة منها لخمس أو ست صفائح ويسمونها «دبجان» والبعض صور سوء الحال عندما يدخل فأر إلى إحدى هذه الآنية ويتعفن بداخله فالماء لا يكفي في هذه الحالة ولكن يتم تعقيمه بطريقة تدخين بدائية حيث يغمس فيه عود من الحطب نصف مشتعل يسمونه «كسكوس» ثم ينزع هذا العود ويغطى الإناء ليظل الدخان محبوساً فيه أطول وقت ممكن. وبالنسبة للطعام فكل بحري لديه كمية من الذرة زوده بها الناخوذة قبل سفره، ولديه أيضاً صبي يتراوح عمره بين العاشرة والخامسة عشرة يقوم بتعليمه العوم والغوص والصبي يقوم في مقابل ذلك ببرح الغواص من البحر بعد أن يملأ سلته بالمحار. ويقوم أيضاً بطحن ما يكفي لإطعامه من الذرة المحلية يوميا على قطعة حجر منحوت تسمى «مطحنة» وبعض الأسر الفقيرة التي لا يوجد لها عائل تأخذ مبلغا من المال مقابل أتعاب ابنها، والبحري يتمتع بالصلاحية الكاملة في تربية ذلك الابن حتى ولو أدى ذلك إلى الضرب والعض في الرجلين ليعود إلى أهله وقد أتقن العوم والغوص وليصبح في المستقبل بحارا يعتمد عليه وتعتمد أسرته عليه.
ويجدر بنا أن نشير إلى مكامن اللؤلؤ أو معادن اللؤلؤ كما تسمى في فرسان التي كانت منتشرة بالقرب من الجزيرة وأيضا إلى تلك المعادن التي كان الفرسانيون يتكبدون عناء السفر لها لاستخراج اللؤلؤ حيث انها لا تعد ولا تحصى ولكن مع كثرتها فإن الفرسانيين كانوا يضطرون إلى الذهاب إلى ما هو أبعد من الجزيرة فإلى جانب مكامن اللؤلؤ التالية: «جنابة» ويقع في خليج جنابة، «أبو شوارية» بالقرب من جزيرة سولين شمال غرب فرسان«السليل» ويقع بالقرب من جزيرة قماح في الجنوب، سلوبة فقد كانت هناك مكامن «معادن» أخرى بالقرب من دهلك واليمن وربا الواقعة بين اليمن وجزيرة فرسان وتستمر هذه الرحلات البحرية إلى عدة أشهر وذلك لاستخراج اللؤلؤ، وقد يضطر الناخوذة للتوقف في بعض الجزر للراحة، مثل جزيرة نورة بالقرب من دهلك التي كانت بمثابة مركز تجاري مصغر يرتاح فيها المسافرون من الصيادين والتجار حيث كانت مورداً للماء ولأخذ بعض الحاجات من سمن وسكر وغيره. وعن حصيلة اللؤلو التي تجمع في عملية جمع اللؤلؤ أو «القماش» كما يسميه الفرسانيون فقد كانت تباع إما في فرسان أو في عدن واللحية إحدى مدن اليمن التي كانت مركزاً تجارياً للؤلؤ آنذاك الذي كان يصدر فيما بعد إلى الهند.

فرسان والعنبرٌ
سواحل جزر فرسان التي تميزت بغناها بمصائد اللؤلؤ ومصائد الأسماك وتنوعت فيها الحياة المرجانية والأحياء المائية من رخويات وقواقع. إلى جانب ذلك كله فهي تعد مناطق غنية بمادة «العنبر الخام» الذي يشكل وجوده على سواحلها مصدرا من مصادر الرزق بالنسبة لبعض سكانها الذين يمارسون هواية البحث عنه في موسم الشتاء. ففي هذا الفصل من كل عام تهب الرياح العكسية الجنوبية الغربية الشديدة التي تهيج معها الأمواج هذه الرياح يسمونها محليا «الأزيب»، ففي هذا الموسم يخرج بعض الفرسانيين فيما يشبه النزهة على السواحل الجنوبية والغربية لهذه الجزر للبحث عما يسمونه «الصوابي» وهي الأشياء التي تطفو على سطح البحر كالأخشاب وبعض الآنية أو الزجاجات الفارغة التي يرميها بحارة البواخر العابرة للبحر الأحمر، وفي بعض الأحيان تكون هذه الصوابي «متفجرات» تأتي طافية على شكل معلبات أعطى تكرار وجودها للفرسانيين خبرة بعدم الانخداع بها وفتحها بل يقومون بدفنها في أماكن بعيدة عن حركة الآخرين خوفا على غيرهم من انفجارها. غير أن هذا ليس هو المهم، ولكن المهم هو أن البحث عن هذه الأشياء يكون استثنائيا، والهدف الأساسي من وراء المشي لمسافات طويلة على الساحل هو البحث عن العنبر الذي يكون وجوده صدفة وحظ. والبحث عن العنبر لا يتم أثناء اشتداد الرياح ولكن بعد سكونها حيث يكون البحر هادئاً، ويوجد على شكل كتل طافية على الساحل أومنبوذة في العراء بعد انحسار البحر عنها وهي متفاوتة الأحجام بين صغير وكبير، وبعضها على شكل حبات «الكمثرى». ومن لا يعرفه لا يفرق بينه وبين كتل «الزفت» الذي يوجد أيضاً بكثرة على الساحل. وخبراء العنبر الفرسانيون يقسمونه إلى نوعين:
1- النوع «الدخني» نسبة إلى لونه الذي يشبه لون الدخن، وهذا النوع هو النوع الجيد وثمنه في العادة مرتفع، ومحظوظ من يجد منه كمية كبيرة لأنها ستعود عليه بمردود نقدي حسن إذا كان ممن يعرفون نوعيته وقيمته.
2- النوع الأسود وهذا أقل جودة وأقل ثمناً.
والفرسانيون يفسرون هذا التفاوت في النوعية بأن العنبر عبارة عن شجر ينبت في قاع البحر يسقط منه ثمره «الكمثرى» الذي يعتبر غذاء رئيسياً للحوت «حوت العنبر» الضخم، فإذا كان هذا الثمر قد وصل إلى الشاطئ بشكله الخام فهو نوع جيد، يدل على ذلك لونه الأشهب وشكله الكمثري. أما إذا كان هذا العنبر قد ابتلعه الحوت وقذفه من جوفه مره أخرى فإن هذا يعني أنه عنبر من الدرجة الثانية لأن شيئاً من فائدته ورائحته قد استهلك ويسمونه «العنبر المبلوع». ما أجمل فرسان وتميزها في وجود مواسم خاصة بها زادتها جمالاً لفرسان مواسم معروفة عند أهلها منذ القدم.

يتبع

رد مع اقتباس