الجزء السادس
لم تسمح لها ، وقالت لها ، أنت كبيرة .. لا يجوز أن تخالطي الرجال .
بقدر ما أسفت أنها لن تفرح مثل بقية الاطفال ، في سنها ، إلا أنني ثمنت الموقف التربوي لوالدتها
وحرصها على أخلاقها .
أخذتهم إلى مركز ألعاب ، وأطلقتهم يلعبون كما يشاؤون .. كنت أطرب حينما يأتي أحدهم ، ويقول :
"عمي لو سمحت .. خلني ألعب في هذي اللعبة .." .. كان قلبي يرقص معهم ..
وفرحت كما لم أفرح من قبل في حياتي .. وحينما ركبت معهم في إحدى الالعاب ، ومالت بنا ..
وظنوا أنهم سيسقطون ، ألتصقوا بي كالافراخ ، إذ تلوذ بأمها ..
في تلك اللحظة شعرت أني كلي صرت قلبا ، يهتز فقط .. ليمنحهم الحياة ..
ولما طوقتني سواعدهم في إحدى المرات .. شعرت أني أعلو ، وأن روحي تتحلل من ربقة الجسد ..
فأنا محض روح ..
خرجنا من مركز الالعاب ، وكان قد بقى على صلاة المغرب ما يقرب من ساعة ..
أقترحت عليهم أن نأكل شيئا .. فضجوا ، فرحا وابتهاجا .
دخلنا مطعم وجبات سريعة ، وأكلنا ، وطلبت أكلا للذين بقوا في البيت .
كان وقت صلاة المغرب قد حـان ، عندما غادرنا المطعم . صليت أنا ومحمد في مسجد قريب .
ثم أنطلقنا إلى البيت ، عند الباب كانت في استقبالنا .. كان للأطفال صراخ ، وضحكات متقطعة ، وضجيج ..
فتح الباب بعد طرق لم يتعد ثواني .. من خلف الباب سمعتها تلهج لي بالدعاء ..
طلبت مني أن أدخل لأتناول كأسة شاهي .. فاعتذرت لإنشغالي بارتباط .. جاء صوتها ترجوني :
- لن نؤخرك .. إشرب شاهينا .. حتى لو إنه .. (ماهو قد المقام) ..
- أشرب شاهيكم يا أم محمد .. ولا تقولي هذا الكلام مرة أخرى .. فإنه يؤذيني ..
جلست في نفس المكان ، وبعد لحظات جاء الشاهي في صينية معدن متثلمة ، وعليها ثلاث كأسات شاهي
كل واحدة من صنف مختلف .
جلست أمامي القرفصاء ملتفة بعباءتها .. وبجانبها عبدالاله .
وصبت كأسة شاي وناولتني إياها ، بأطراف أصابعها ، وكفها مازالت ممسكة بعباءتها .. محاولة أن
تكسر جمود الصمت بيننا .. قالت :
- كلفنا عليك .. في ميزانك .. إن شاء الله .
- ليس أجمل من ضحكة طفل .. إلا شعوره بالامتنان تجاهك .. لقد ضمتني إبتسام .. دون أن تتكلم ..
لو تدرين يا أم محمد .. تطحننا الحياة أحيانا .. بلا رفق ، بإيقاعها السريع .. ونحتاج إلى ضمة كهذه ..
لتبتل قلوبنا التي قتلها العطش ..
خرجت من عندهم ، ووعدت بزيارة في مطلع الاسبوع القادم دون أن أحدد وقتا معينا .. انشغلت يوم
السبت لكنني جئت في الموعد نفسه مساء الأحد .
طرقت الباب وأنا أحمل طعاما ، وبعض الحلويات .. تأخر الرد هذه المرة .. ثم حينما فتح الباب
ظهر محمد مترددا .. ناولته الأغراض ، بعد أن سلمت عليه ، وداعبته .. لكنه لم يستجب لدعابتي
.. قلت .. ربما أغضبه أحد .. لكنه أيضا ، لم يستلم الأغراض مني .. وتراجع ، وقال
وهو يشرع في إغلاق الباب :
- أمي تقول .. لا نريد منك شيئا .. ولا نريد أن نراك ثانية .. وقفت مشدوها أمام الباب .. ما الذي حدث ..
خاطبت نفسي ..؟
تركت الأغراض في مكانها ، وعدت إلى سيارتي أجر خطواتي جرا .. شعرت أني مكلوم الفؤاد ..
مثل عاص طرد من الرحمة .. ركبت سيارتي ، لكني عجزت عن تشغيلها .. عدت إلى الباب ثانية وطرقته ..
وألححت في الطرق .. فجاءني صوتها من وراء الباب :
- أرجوك أن تدعنا وشأننا ..
- لن تريني ثانية .. خذي الأغراض التي عند الباب .. إنها للأطفال .. أرجوك .. لم أنم تلك الليلة ..
قلبني الهم والوجع ..وتعذبت .. شعرت كأنما دخلت التيه من جديد .. كطفل فقد أمه في زحام ..
فارغ القلب ..فارغ العينين .. يصرخ .. وصوته ضائع في الضجيج ..
سيطر علي إحساس أن الأمر له علاقة بموضي .. في الصباح الباكر إنطلقت ، قبل أن يبدأ الطلاب
والطالبات الخروج إلى المدارس .. جلست أرقب البيت من بعيد .. كلهم خرجوا إلا هي .. من الغد ..
صباح الثلاثاء ، فعلت الشئ نفسه ..لم تخرج موضي ..
بعد المغرب كنت عند الباب . طرقت .. جاء الرد بأسرع مما توقعت .. كانت إبتسام هي التي فتحت
يضيء وجهها بابتسامة ، شعرت بوهجها يلمع في عيني ..
- ماما .. محمد عند الباب ... سمعت الصوت يأتي من الداخل ... - أغلقي الباب ... يا بنت ..
كان معي في جيبي حلاوة ، فأخرجتها ، ولوحت بها لإبتسام .. فجاءت تركض نحوي ..
طبعـت على جبينها قبلة ، وأعطيتها الحلاوة .. وأخذت أمازحها ..
استبطأت أمها عودتها ، فجاءت إلى حيث الباب ، فرأتها معي .. صرخت :
- تعالي يا بنت .. ثم وجهت الكلام لي :
- لم لا تكفينا شرك ..؟
- أم محمد .. أنا سأذهب .. لكن ، ليس قبل أن أعرف السبب ..
- أما تخاف الله .. تستغل حاجتنا .. وضعفنا .. وقلة حيلتنا لتخدع فتاة بريئة ..
أحسست كأنما دق في صدري وتد هائل .. انقبض قلبي وزادت دقاته .. وعجزت أن اتنفس ..
وشعرت بحاجة للجلوس .. فارتميت على عتبة الباب .. وخانني الدمع .. فتفجرت عيناي ..
رفعت وجهي إليها ، الذي غدا ، والدمع يملؤه ، كغدير ماء ضحل خاضت فيه السنابك ..
- إتق الله .. فأنا لا أتحمل مثل هذا الكلام .. ولن أغادر عتبة بابك حتى أعرف القصة كاملة ..
كأنما شكت فيما لديها ، مما تعتقد أنه (حقائق) ، وهي ترى الألم .. والذهول .. والصدمة ..
تتصبب من قسمات وجهي صبا .. أو هكذا ظننت ..
قالت - تفضل ..
دخلت وأخذت مكاني المعتاد في المجلس .غابت عني دقائق ثم عادت ومعها موضي ..
ووقفت أمامي .. ثم قالت ، وهي تشير إلى موضي بصوت مملوء بالغضب ..
- ما قصة هذه الملعونة ..؟
ثم لطمتها لطمة أطارت غطاء وجهها ..
كان مشهدا صدع قلبي .. ذلك الوجه اللؤلؤي البديع غدا كقطعة كهرمان .. من الكدمات السود التي
انتشرت فيه نتيجة لتعرضه لضرب قاس وعنيف .. إلتقطت موضي غطاء وجهها ، ولحظتني بطرف كسير ..
أتى على البقية الباقية من نفسي .. ثم قبعت عند الباب .. كما أمرتها أمها ..
حكيت لها قصتي مع موضي كلها .. ثم قلت :
- أريد أن أحدثك حديثا خاصا .. قبل أن أمشي .. أشارت إلى موضي بالانصراف ..
- البنت طفلة بريئة .. ضحية ظروف كثيرة ، لا تستحق هذه القسوة .. والقسوة لا تحل مشكلة ..
إن كانت موجودة ..هي قد ارتكبت خطأ .. نعم .. لكن تم تداركه والحمد لله ..
- محمد .. هكذا نادتني .. باسمي مجردا .. والبكاء يغلبها .. إنها لحظة الضعف البشري ..
التي تنسى كل (البروتوكلات) .. لحظة .. يتحول الانسان كله إلى ما يشبه ( يد) غريق .. تمتد من خلال الموج ..
لتتمسك بأي قشه .. - أنت لا تعرف أي شئ مثلت لي خلال هذا الأسبوع ، قبل أن أكتشف قصة موضي ..
زوجي مات في السجن .. وهو قبل أن يموت فعلا .. كان بالنسبة لنا ، فـي عداد الاموات ..
تورط في تعاطي المخدرات ، ثم ترويجها .. وانتهى النهاية المتوقعة لسلوك مثل هذا ..
وأنا إمرأة ضعيفة .. أم بنات .. مشلولة الارادة .. مستهدفة .. أعيش حالة من الذل مستمرة .. إن ذهبت للبقالة ..
لا يخلو خطاب العامل الهندي لي من تلميحات .. إن سرت في الشارع .. كل الرجال يعتقدون أني
مستعدة لتقديم شيءقبل أن أتوقف عن الذهاب إلى (الذل الجماعي) الذي يسمونه ( الضمان الاجتماعي ) ..
كنت أعاني العذابين .. لو لم يكن فيه من بلاء إلا مكانه .. لكان يكفي .. في ذلك البناء المتهالك في ( الغرابي ) ..
حيث طوابير العمال .. نظراتهم الجائعة .. تنهش جسدي .. أتعثر مرة .. وأقوم أخرى .. لأعود بفتات تافه حقير ..
لا يكفي دفاتر ، ومراسم لهؤلاء الاطفال ..
ثم وصلـت إلى لحظة من الضعف .. فبدأت تبكي كالاطفال .. وحاولت أن تتكلم ، فلم تقدر.. شعرت أن جوارحها
كلها تصرخ .. وتتدافع إلى حنجرتها ،لتأخذ دورها في الشكوى ..
ثم قالت ، وهى تنتزع آهة من أعماقها .. وبصوت يشبه العويل :
- لا يمر أسبوع إلا وتمر علي (أم سعد) .. تغريني كثيرا .. وتهددني بخطـف بناتي أحيانا ..
- من هي أم سعد ..؟
- قواده .. وحاولت أن تستمر ، لكن غلبها البكاء .. فتوقفت .. وأخذت تنشج ، حتى ابتل غطاء وجهها ..
استأنفت الحديث ، بعد أن تمالكت نفسها :
- قواده .. تقول لي .. مـرة في الاسبـوع .. أربعـة ألاف ريال في الشهر ..
ومصروف جيب للأولاد .. و " تحبين يدك مقلوبة " .. بسرعة ترى شبابك ينقص كل شهر .. وليس كل سنة ..
حقيقة .. لم استطع أن أتكلم .. أو أعقب ، واستمرت هي في الكلام .. في كل مرة تجيء بسيارة أحسن من التي
قبلها آخر مره قالت لي :
"إسمعي نصيحتي يا ساره ، إذا أنت مبسوطة من عيشة النكد والفقر التي أنت فيها .. (حرام) تحرمين موضي من
فرصتها .. موضي بنية حلوة .. وكثيرون سوف يدفعون ..
لقد كاد أن يصيبني الجنون ، عندما اكتشفت قصة موضي بالصدفة .. قلت .. أكيد صادتها (أم سعد) ..
يتبع