عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 2008-02-11, 02:10 PM
مكشات 2007 مكشات 2007 غير متواجد حالياً
عـضـو فـعـال
 
تاريخ التسجيل: Nov 2007
الدولة: السعوديه
المشاركات: 191
جنس العضو: ذكر
مكشات 2007 is on a distinguished road
افتراضي

ذكر مدينة مكة المعظمة (2)

حكاية كان تقي الدين المصري محتسبا بمكة، وكان له دخول فيما يعنيه وفيما لا يعنيه. فاتفق في بعض السنين أن أتى أمير الحاج بصبي من ذوي الدعارة بمكة قد سرق بعض الحجاج. فأمر بقطع يده فقال له تقي الدين: إن لم تقطعها بحضرتك، وإلا غلب أهل مكة خدامك عليه. فاستنقذوه منهم وخلصوه، فأمر بقطع يده في حضرته فقطعت. وحقدها لتقي الدين. ولم يزل يتربص به الدوائر، ولا قدرة له عليه لأن له حسبا من الأميرين رميثة وعطيفة والحسب عندهم أن يعطي أحدهم هدية من عمامة أو شاشية بمحضر الناس تكون جوارا لمن أعطيته، ولا تزول حرمتها، معه حتى يريد الرحلة والتحول عن مكة. فأقام تقي الدين بمكة أعواما، ثم عزم على الرحلة، وودع الأميرين، وطاف طواف الوداع، وخرج من باب الصفا. فلقيه صاحبه الأقطع وتشكى له ضعف حاله، وطلب منه ما يستعين به على حاجته. فانتهره تقي الدين وزجره، فاستل خنجرا له يعرف عندهم بالجنبية، وضربه ضربة واحدة كان فيها حتفه. ومنهم الفقيه الصالح زين الدين الطبري، شقيق نجم الدين المذكور من أهل الفضل والإحسان للمجاورين ومنهم الفقيه المبارك محمد بن فهد القرشي، من فضلاء مكة. وكان ينوب عن القاضي نجم الدين بعد وفاة الفقيه محمد بن عثمان الحنبلي، ومنهم العدل الصالح محمد بن البرهان زاهد ورع مبتلى بالوسواس. رأيته يوما يتوضأ من بركة المدرسة المظفرية، فيغسل ويكرر، ولما مسح رأسه أعاد مسحه مرات، ثم لم يقنعه ذلك فغطس رأسه في البركة. وكان إذا أراد الصلاة ربما صلى الإمام الشافعي، وهو يقول: نويت نويت، فيصلي من غيره وكان كثير الطواف والاعتمار والذكر.
ذكر المجاورين بمكة
فمنهم الإمام العالم الصالح الصوفي المحقق العابد عفيف الدين عبد الله بن أسعد اليمني الشافعي الشهير باليافعي، كثير الطواف آناء الليل وأطراف النهار وكان إذا طاف من الليل يصعد إلى سطح المدرسة المظفرية فيقعد مشاهدا للكعبة الشريفة، إلى أن يغلبه النوم فيجعل تحت رأسه حجرا، أو ينام يسيرا، ثم يجدد الوضوء ويعود لحاله من الطواف حتى يصلي الصبح. وكان متزوجا ببنت الفقيه العابد شهاب الدين بن برهان، وكانت صغيرة السن. فلا تزال تشكو إلى أبيها حالها فيأمرها بالصبر، فأقامت معه على ذلك سنين ثم فارقته. ومنهم الصالح العابد نجم الدين الأصفوني. كان قاضيا ببلاد الصعيد فانقطع إلى الله تعالى، وجاور بالحرم الشريف. وكان يعتمر في كل يوم من التنعيم، ويعتمر في رمضان: مرتين في اليوم اعتمادا على ما في الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: عمرة في رمضان تعدل حجة معي . ومنهم الشيخ الصالح العابد شمس الدين محمد الحلبي، كثير الطواف والتلاوة من قدماء المجاورين، توفي بمكة، ومنهم الصالح أبو بكر الشيرازي المعروف بالصامت، كثير الطواف، أقام بمكة أعواما لا يتكلم فيها. ومنهم الصالح خضر العجمي، كثير الصوم والتلاوة والطواف. والشيخ الصالح برهان الدين العجمي الواعظ، كان ينصب له كرسي تجاه الكعبة الشريفة فيعظ الناس ويذكرهم بلسان فصيح وقلب خاشع يأخذ بمجامع القلوب. والصالح المجود برهان الدين إبراهيم المصري مقرىء مجيد ساكن رباط السدرة، ويقصده أهل مصر والشام بصدقاتهم، ويعلم الأيتام كتاب الله تعالى، ويقوم بمؤنهم ويكسوهم. والصالح العابد عز الدين الواسطي من أصحاب الأموال الطائلة، يحمل إليه من بلده المال الكثير في كل سنة، فيبتاع الحبوب والتمر، ويفرقها على الضعفاء والمساكين، ويتولى حملها إلى بيوتهم بنفسه، ولم يزل ذلك دأبه إلى أن توفي. والفقيه الصالح الزاهد أبو الحسن علي بن رزق الله الأنجري من أهل قطر طنجة من كبار الصالحين جاور بمكة سنين وبها وفاته. كانت بينه وبين والدي صحبة قديمة. ومتى أتى إلى بلدنا طنجة نزل عندنا. وكان له بيت بالمدرسة المظفرية يعلم العلم فيها نهارا ويأوي بالليل إلى مسكنه برباط ربيع، وهو من أحسن الرباطات بمكة، بداخله بئر عذبة لا تماثلها بئر بمكة، وسكانها الصالحون وأهل ديار الحجاز يعظمون هذا الرباط تعظيما شديدا وينذرون له النذور، وأهل الطائف يأتونه بالفواكه. ومن عاداتهم أن كل من له بستان من النخيل والعنب والفرسك وهو الخوخ والتين وهو يسمونه الخمط يخرج منه العشر لهذا الرباط. ويوصلون ذلك إليه على جمالهم ومسيرة ما بين مكة والطائف يومان. ومن لم يف بذلك نقصت فواكهه في السنة الآتية وأصابتها الجوائح.
حكاية في فضيلة أتي يوما غلمان الأمير أبي نمي صاحب مكة إلى هذا الرباط ودخلوا بخيل الأمير وسقوها من تلك البئر، فلما عادوا بالخيل إلى مرابطها أصابتها الأوجاع وضربت بأنفسها الأرض برؤوسها وأرجلها. واتصل الخبر بالأمير أبي نمي، فأتى باب الرباط بنفسه، واعتذر إلى المساكين الساكنين به، واستصحب واحدا منهم فمسح على بطون الدواب بيده فأراقت ما كان في أجوافها من ذلك الماء وبرئت مما أصابها، ولم يتعرضوا بعدها للرباط إلا بالخير. ومنهم الصالح المبارك أبو العباس الغماري من أصحاب أبي الحسن بن رزق الله. وسكن رباط ربيع، ووفاته بمكة. ومنهم الصالح أبو يعقوب يوسف بن بادية سبتة، كان خديما للشيخين المذكورين، فلما توفيا صار شيخ الرباط بعدهما. ومنهم الصالح السابح السالك أبو الحسن علي بن فرغوس التلمساني. ومنهم الشيخ سعيد الهندي شيخ رباط كلالة.
حكاية
كان الشيخ سعيد قد قصد ملك الهند محمد شاه، فأعطاه مالا عظيما قدم به مكة. فسجنه الأمير عطيفة، وطلبه بأداء المال، فامتنع فعذب بعصر رجليه، فأعطى خمسة وعشرين ألف درهم نقرة، وعاد إلى بلاد الهند. ورأيته بها، ونزل بدار الأمير سيف الدين غدا ابن هبة الله بن عيسى بن مهنا أمير عرب الشام. وكان غدا ساكنا ببلاد الهند متزوجا بأخت ملكها، وسيذكر أمره. فأعطى ملك الهند للشيخ سعيد جملة مال، وتوجه صحبة حاج يعرف بوشل من ناس الأمير غدا، وجهه الأمير المذكور ليأتيه ببعض ناسه، ووجه معه أموالا وتحفا منها الخلعة التي خلعها عليه ملك الهند ليلة زفافه بأخته، وهي من الحرير الأزرق مزركشة بالذهب، ومرصعة بالجوهر، بحيث لا يظهر لونها لغلبة الجوهر عليها، وبعث معها خمسين ألف درهم ليشتري له الخيل العتاق. فسافر الشيخ سعيد صحبة وشل، واشتريا سلعا بما عندهما من الأموال. فلما وصلا جزيرة سقطرة المنسوب إليها الصبر السقطري، خرج عليهما لصوص الهند في مراكب كثيرة فقاتلوهم قتالا شديدا، مات فيه من الفريقين جملة. وكان وشل راميا فقتل منهم جماعة، ثم تغلب السراق عليهم وطعنوا وشلا طعنة مات منها بعد ذلك. وأخذوا ما كان عندهم، وتركوا لهم مركبهم بآلة سفره وزاده. فذهبوا إلى عدن، ومات بها وشل. وعادة هؤلاء السراق أنهم لا يقتلون أحدا إلا حين القتال ولا يغرقونه، وإنما يأخذون ماله وبتركونه يذهب بمركبه حيث شاء. ولا يأخذون المماليك لأنهم من جنسهم. وكان الحاج سعيد قد سمع من ملك الهند أنه يريد إظهار الدعوة العباسية ببلده، كمثل ما فعله ملوك الهند ممن تقدمه، مثل السلطان شمس الدين للمش واسمه بفتح اللام الأولى وإسكان الثانية وكسر الميم وشين معجم ، وولده ناصر الدين. ومثل السلطان جلال الدين فيروز شاه، والسلطان غياث الدين بلين. وكانت الخلع تأتي إليهم من بغداد. فلما توفي وشل قصد الشيخ سعيد إلى الخليفة أبي العباس ابن الخليفة أبي الربيع سليمان العباسي بمصر، وأعلمه بالأمر. فكتب له كتابا بخطه بالنيابة عنه ببلاد الهند. فاستصحب الشيخ سعيد الكتاب وذهب إلى اليمن واشترى بها ثلاث خلع سودا، وركب البحر إلى الهند. فلما وصل كنبايت، وهي على مسيرة أربعين يوما من دهلي حاضرة ملك الهند، كتب صاحب الخبر إلى الملك يعلمه بقدوم الشيخ سعيد، وأن معه أمر الخليفة وكتابه. فورد الأمر ببعثه إلى الحضرة مكرما. فلما قرب من الحضرة بعث الأمراء والقضاة والفقهاء لتلقيه، ثم خرج هو بنفسه لتلقيه. فتلقاه وعانقه ودفع له الأمر، فقبله ووضعه على رأسه، ودفع له الصندوق الذي فيه الخلع فاحتمله الملك على كاهله خطوات ولبس إحدى الخلع وكسا الأخرى الأمير غياث الدين محمد بن عبد القادر بن يوسف بن عبد العزيز ابن الخليفة المنتصر العباسي، وكان مقيما عنده، وسيذكر خبره.
وكسا الخلعة الثالثة الأمير قبوله الملقب بالملك الكبير، وهو الذي يقوم على رأسه ويشرد عنه الذباب. وأمر السلطان فخلع على الشيخ سعيد ومن معه، وأركبه على الفيل، ودخل المدينة كذلك، والسلطان أمامه على فرسه، وعن يمينه وشماله الأميران اللذان كساهما الخلعتين العباسيتين. والمدينة قد زينت بأنواع الزينة وصنع بها إحدى عشرة قبة من الخشب. كل قبة منها أربع طبقات، في كل طبقة طائفة من المغنين رجالا ونساء، والراقصات، وكلهم مماليك السلطان. والقبة مزينة بثياب الحرير المذهب أعلاها وأسفلها وداخلها وخارجها، وفي وسطها ثلاثة أحواض من جلود الجواميس مملوءة ماء قد حل فيه الجلاب، يشربه كل وارد وصادر، لا يمنع منه أحد. وكل من يشرب منه يعطى بعد ذلك خمس عشرة ورقة من أوراق التنبول والفوفل والنورة، فيأكلها فتطيب نكهته وتزيد في حمرة وجهه ولثاته وتقمع عنه الصفراء وتهضم ما أكل من الطعام. ولما ركب الشيخ سعيد على الفيل فرشت له ثياب الحرير بين يدي الفيل يطأ عليها الفيل من باب المدينة إلى دار السلطان. وأنزل بدار تقرب من دار الملك. وبعث له أموالا طائلة. وجميع الأثواب المعلقة المفروشة بالقباب والموضوعة بين يدي الفيل لا تعود إلى السلطان بل يأخذها أهل الطرب وأهل الصناعات الذين يصنعون القباب، وخدام الأحواض وغيرهم. وهكذا فعلهم من قدم السلطان من سفر. وأمر الملك بكتاب الخليفة أن يقرأ على المنبر بين الخطبتين في كل يوم جمعة، وأقام الشيخ سعيدا شهرا ثم بعث معه الملك هدايا إلى الخليفة. فوصل كنبايت، وأقام بها حتى تيسرت أسباب حركته في البحر. وكان ملك الهند قد بعث أيضا من عنده رسولا إلى الخليفة وهو الشيخ رجب البرقعي، أحد شيوخ الصوفية، وأصله من مدينة القرم من صحراء قفجق، وبعث معه هدايا للخليفة منها حجر ياقوت قيمته خمسون ألف دينار. وكتب له يطلب منه أن يعقد له النيابة عنه ببلاد الهند والسند، ويبعث له سواه من يظهر. هكذا نص عليه كتابه اعتقادا منه في الخلافة وحسن نية. وكان للشيخ رجب أخ بديار مصر يدعى بالأمير سيف الدين الكاشف. فلما وصل رجب إلى الخليفة أبى أن يقرأ الكتاب ويقبل الهدية إلا بمحضر الملك الصالح إسماعيل بن الملك الناصر. فأشار سيف الدين على أخيه رجب ببيع الحجر فباعه واشترى بثمنه، وهو ثلاثمائة ألف درهم، أربعة أحجار. وحضر بين يدي الملك الصالح، ودفع له الكتاب، وأحد الأحجار، ودفع سائرها لأمرائه. واتفقوا على أن يكتب لملك الهند بما طلب.
فوجهوا الشهود إلى الخليفة وأشهد على نفسه أنه قدمه نائبا عنه ببلاد الهند وما يليها، وبعث الملك الصالح رسولا من قبله، وهو شيخ الشيوخ بمصر ركن الدين العجمي، ومعه الشيخ رجب وجماعة من الصوفية، وركبوا بحر فارس من الأبلة إلى هرمز، وسلطانها يومئذ قطب الدين تمتهن طوران شاه. فأكرم مثواهم، وجهز لهم مركبا إلى بلاد الهند فوصلوا مدينة كنبايت والشيخ سعيد بها وأميرها يومئذ مقبول التلتكي، أحد خواص ملك الهند فاجتمع الشيخ رجب بهذا الأمير وقال له أن الشيخ سعيد إنما جاءكم بالتزوير. والخلع التي ساقها إنما اشتراها بعدن، فينبغي أن تثقفوه وتبعثوه إلى خوند عالم وهو السلطان. فقال له الأمير: الشيخ سعيد معظم عند السلطان فما يفعل به هذا إلا بأمره. ولكني أبعثه معك ليرى فيه السلطان رأيه. وكتب الأمير بذلك كله إلى السلطان، وكتب به أيضا صاحب الأخبار فوقع في نفس السلطان تغير، وانقبض عن الشيخ رجب لكونه تكلم بذلك على رؤوس الأشهاد، بعد ما صدر من السلطان للشيخ سعيد من الإكرام ما صدر، فمنع رجب من الدخول عليه، وزاد إكرام الشيخ سعيد، ولما دخل شيخ الشيوخ على السلطان قام إليه وعانقه وأكرمه وكان متى دخل عليه يقوم إليه. وبقي الشيخ سعيد المذكور بأرض الهند معظما مكرما. وبها تركته سنة ثمان وأربعين. وكان بمكة أيام مجاورتي بها حسن المغربي المجنون، وأمره غريب وشأنه عجيب. وكان قبل ذلك صحيح العقل خديما لولي الله تعالى نجم الدين الأصبهاني أيام حياته.
حكاية
كان حسن المجنون كثير الطواف بالليل، وكان يرى في طوافه بالليل فقيرا، يكثر الطواف، ولا يراه بالنهار. فلقيه ذلك الفقير ليلة، وسأله عن حاله، وقال يا حسن: إن أمك تبكي عليك، وهي مشتاقة إلى رؤيتك، وكانت من إماء الله الصالحات، أفتحب أن تراها قال له: نعم، ولكني لا قدرة لي على ذلك. فقال له: نجتمع ها هنا في الليلة المقبلة إن شاء الله تعالى - فلما كانت الليلة المقبلة، وهي ليلة الجمعة، وجده حيث واعده - فطافا بالبيت ما شاء الله، ثم خرج، وهو في أثره، إلى باب المعلى. فأمره أن يسد عينيه ويمسك بثوبه ففعل ذلك. ثم قال: بعد ساعة: أتعرف بلدك ? قال نعم. قال: ها هو هذا. ففتح عينيه، فإذا به على دار أمه، فدخل عليها، ولم يعلمها بشيء مما جرى، وأقام عندها نصف شهر، وأظن أن بلده مدينة أسفي . ثم خرج إلى الجبانة، فوجد الفقير صاحبه، فقال له: كيف أنت ? فقال: يا سيدي، إني اشتقت إلى رؤية الشيخ نجم الدين؛ وكنت خرجت على عادتي، وغبت عنه هذه الأيام، وأحب أن تردني إليه. فقال له: نعم، وواعده الجبانة ليلا. فلما وافاه بها، أمره أن يفعل كفعله في مكة شرفها الله، من تغميض عينيه والإمساك بذيله ففعل ذلك، فإذا به في مكة شرفها الله. وأوصاه أن لا يحدث نجم الدين بشيء مما جرى، ولا يحدث به غيره فلما دخل على نجم الدين، قال له: أين كنت يا حسن في غيبتك ? فأبى أن يخبره. فعزم عليه، فأخبره بالحكاية. فقال: أرني الرجل، فأتي معه ليلا، وأتى الرجل على عادته. فلما مر بهما قال له: يا سيدي هو هذا. فسمعه الرجل فضربه بيده على فمه وقال اسكت اسكتك الله. فخرس لسانه، وذهب عقله، وبقي بالحرم مولها يطوف بالليل والنهار من غير وضوء ولا صلاة، والناس يتبركون به ويكسونه، وإذا جاع خرج إلى السوق التي بين الصفا والمروة، فيقصد حانوتا من الحوانيت، فيأكل منها ما أحب، لا يصده أحد ولا يمنعه بل يسر كل من أكل له شيئا، وتظهر له البركة والنماء في بيعه وربحه. ومتى أتى السوق تطاول أهلها بأعناقهم إليه، كل منهم يحرص على أن يأكل من عنده، لما جربوه من بركته. كذلك فعله مع السقائين، متى أحب أن يشرب. ولم يزل دأبه كذلك إلى سنة ثمان وعشرين، فحج فيها الأمير سيف الدين يلملك، فاستصحبه معه إلى ديار مصر، فانقطع خبره نفع الله تعالى به.
ذكر عادة أهل مكة في صلواتهم ومواضع أئمتهم
فمن عاداتهم أن يصلي أول الأئمة إمام الشافعية، وهو المقدم من قبل أولي الأمر. وصلاته خلف المقام الكريم، مقام إبراهيم الخليل عليه السلام في حطيم له هنالك بديع. وجمهور الناس بمكة على مذهبه. والحطيم خشبتان موصول ما بينها بأذرع شبه السلم، تقابلهما خشبتان على صفتهما، وقد عقدت على أرجل مجصصة، وعرض على أعلى الخشب خشبة أخرى فيها خطاطيف حديد يعلق فيها قناديل زجاج. فإذا صلى الإمام الشافعي صلى بعده إمام المالكية في محراب قبالة الركن اليماني، ويصلي إمام الحنبلية معه في وقت واحد مقابلا ما بين الحجر الأسود والركن اليماني، ثم يصلي إمام الحنفية قبال الميزاب المكرم تحت حطيم له هنالك، ويوضع بين يدي الأئمة في محاربيهم الشمع. وترتيبهم هكذا في الصلوات الأربع، وأما صلاة المغرب فإنهم يصلونها في وقت واحد، كل إمام يصلي بطائفته، ويدخل على الناس من ذلك سهو تخليط، فربما ركع المالكي بركوع الشافعي وسجد الحنفي بسجود الحنبلي. وتراهم مصيخين كل واحد إلى صوت المؤذن الذي يسمع طائفته لئلا يدخل عليه السهو.
ذكر عاداتهم في الخطبة وصلاة الجمعة
وعادتهم في يوم الجمعة أن يلصق المنبر المبارك إلى صفح الكعبة الشريفة، فيما بين الحجر الأسود والركن العراقي، ويكون الخطيب مستقبلا المقام الكريم. فإذا خرج الخطيب، أقبل لابسا ثوب سواد، معتما بعمامة سوداء، وعليه طيلسان أسود. كل ذلك من كسوة الملك الناصر. وعليه الوقار والسكينة، وهو يتهادى بين رايتين سوداوين، يمسكهما رجلان من المؤذنين، وبين يديه أحد القومه، في يده الفرقعة، وهي عود في طرفه جلد رقيق مفتول، ينفضه في الهواء فيسمع له صوت عال يسمعه من بداخل الحرم وخارجه، فيكون إعلاما بخروج الخطيب. ولا يزال كذلك إلى أن يقرب من المنبر فيقبل الحجر الأسود ويدعو عنده، ثم يقصد المنبر، والمؤذن الزمزمي، وهو رئيس المؤذنين بين يديه، لابسا السواد وعلى عاتقه السيف ممسكا له بيده، وتركز الرايتان عن جانبي المنبر. فإذا صعد أول درج من درج المنبر قلده المؤذن السيف، فيضرب بنصل السيف ضربة في الدرج يسمع بها الحاضرين، ثم يضرب في الدرج الثاني ضربة، ثم في الثالث أخرى.فإذا استوى في عليا الدرجات ضرب ضربة رابعة، ووقف داعيا بدعاء خفي، مستقبل الكعبة. ثم يقبل على الناس فيسلم عن يمينه وشماله، ويرد عليه الناس، ثم يقعد. ويؤذن المؤذنون في أعلى قبة زمزم في حين واحد. فإذا فرغ الأذان، خطب الخطيب خطبة يكثر بها من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ويقول في أثنائها: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد ما طاف بهذا البيت طائف، ويشير بأصبعه إلى البيت الكريم: اللهم صل على محمد وآل محمد ما وقف بعرفة واقف. ويترضى عن الخلفاء الأربعة وعن سائر الصحابة وعن النبي صلى الله عليه وسلم وسبطيه وأمهما وخديجة جدتهما، على جميعهم السلام. ثم يدعو للملك الناصر، ثم للسلطان المجاهد نور الدين علي ابن الملك المؤيد داود ابن الملك المظفر يوسف بن علي بن رسول، ثم للسيدين الشريفين الحسنيين أميري مكة. سيف الدين عطيفة، وهو أصغر الأخوين، ويقدم اسمه لعدله، وأسد الدين رميثة، ابني أبي نمي بن أبي سعيد بن علي بن قتادة. وقد دعا لسلطان العراق مرة، ثم قطع ذلك. فلما فرغ من خطبته وانصرف، والرايتان عن يمينه وشماله والفرقعة أمامه إشعارا بانقضاء الصلاة، ثم يعاد المنبر إلى مكانه الكريم.
ذكر عاداتهم في استهلال الشهور
وعادتهم في ذلك أن يأتي أمير مكة في أول يوم من الشهر، وقواده يحفون به، وهو لابس البياض معتم متقلد سيفا وعليه السكينة والوقار، فيصلي عند المقام الكبير ركعتين، ثم يقبل الحجر، ويسرع في طواف اسبوع . ورئيس المؤذنين على أعلى قبة زمزم. فعند ما يكمل الأمير شوطا واحدا. ويقصد الحجر لتقبيله، يندفع رئيس المؤذنين بالدعاء له، والتهنئة بدخول الشهر، رافعا بذلك صوته، ثم يذكر شعرا في مدحه ومدح سلفه الكريم. ويفعل به هكذا في السبعة أشواط. فإذا فرغ منها ركع عند الملتزم ركعتين، ثم ركع خلف المقام أيضا ركعتين، ثم انصرف. ومثل هذا سواء يفعل إذا أراد سفرا وإذا قدم من سفر أيضا.
ذكر عادتهم في شهر رجب
وإذا هل هلال رجب أمر أمير مكة بضرب الطبول والبوقات اشعارا بدخول الشهر، ثم يخرج في أول يوم منه راكبا. ومعه أهل مكة فرسانا ورجالا، على ترتيب عجيب، وكلهم بالأسلحة، يلعبون بين يديه، والفرسان يجولون ويجرون، والرجال يتواثبون ويرمون بحرابهم إلى الهواء، ويلقفونها، والأمير رميثة والأمير عطيفة معهما أولادهما وقوادهما مثل محمد بن إبراهيم، وعلي وأحمد ابني صبيح، وعلي بن يوسف وشداد بن عمر وعامر الشرق ومنصور بن عمر وموسى المزرق، وغيرهم من كبار أولاد الحسن ووجوه القواد. وبين أيديهم الرايات والطبول والدبادب، وعليهم السكينة والوقار. ويسيرون حتى ينتهوا إلى الميقات، ثم يأخذون في الرجوع على معهود ترتيبهم إلى المسجد الحرام، فيطوف الأمير بالبيت، والمؤذن الزمزمي بأعلى قبة زمزم يدعو له عند كل شوط، على ما ذكرناه من عادته، فإذا طاف صلى ركعتين عند الملتزم، وصلى عند المقام وتمسح به، وخرج إلى المسعى فسعى راكبا والقواد يحفون به، والحرابة بين يديه، ثم يسير إلى منزله. وهذا اليوم عندهم عيد من الأعياد يلبسون فيه أحسن الثياب ويتنافسون في ذلك.
ذكر عمرة رجب
وأهل مكة يحتفلون لعمرة رجب الاحتفال الذي لا يعهد مثله، وهي متصلة ليلا نهارا. وأوقات الشهر كله معمورة بالعبادة، وخصوصا أول يوم منه، ويوم خمسة عشر، والسابع والعشرين. فإنهم يستعدون لها قبل ذلك بأيام. شاهدتهم في ليلة السابع والعشرين منه، وشوارع مكة قد غصت بالهوادج عليها كساء الحرير والكتان الرفيع، كل واحد يفعل بقدر استطاعته، والجمال مزينة مقلدة بقلائد الحرير، وأستار الهوادج ضافية تكاد تمس الأرض فهي كالقباب المضروبة. ويخرجون إلى ميقات التنعيم فتسيل أباطح مكة بتلك الهوادج، والنيران مشعلة بجنبتي الطريق، والشمع والمشاعل أمام الهوادج، والجبال تجيب بصداها إهلال المهللين، فترق النفوس، وتنهمل الدموع، فإذا قضوا العمرة، وطافوا بالبيت، خرجوا إلى السعي بين الصفا والمروة بعد مضي شيء من الليل، والمسعى متقد السرج غاص بالناس، والساعيات على هوادجهن، والمسجد الحرام يتلألأ نورا. وهم يسمون هذه العمرة بالعمرة الأكمية، لأنهم يحرمون بها من أكمة مسجد عائشة رضي الله عنها بمقدار غلوة، على مقربة من المسجد المنسوب إلى علي رضي الله عنه. والأصل في هذه العمرة أن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما لما فرغ من بناء الكعبة المقدسة خرج ماشيا حافيا معتمرا، ومعه أهل مكة وذلك في اليوم السابع والعشرين من رجب، وانتهى إلى الأكمة فأحرم منها، وجعل طريقه على ثنية الحجون إلى المعلى، من حيث دخل المسلمون يوم الفتح. فبقيت تلك العمرة سنة عند أهل مكة إلى هذا العهد، وكان عهد عبد الله مذكورا أهدى فيه بدنا كبيرة، وأهدى أشراف مكة وأهل الاستطاعة منهم. وأقاموا أياما يطعمون ويطعمون شكرا لله على ما وهبهم من التيسير والمعونة في بناء بيته الكريم، على الصفة التي كانت عليها في أيام الخليل صلوات الله عليه. ثم لما قتل ابن الزبير نقض الحجاج الكعبة، وردها إلى بنائها في عهد قريش وكانوا قد اقتصروا في بنائها، وأبقاها رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك، لحدثان عهدهم بالكفر. ثم أراد الخليفة أبو جعفر المنصور أن يعيدها إلى بناء ابن الزبير، فنهاه مالك رحمه الله عن ذلك، وقال: يا أمير المؤمنين، لا تجعل البيت ملعبة للملوك، متى أراد أحدهم أن يغير فعل. فتركه على حاله سدا للذريعة وأهل البلاد الموالية لمكة، مثل بجيله وزهران وغامد، يبادرون لحضور عمرة رجب ويجلبون إلى مكة الحبوب والسمن والعسل والزبيب والزيت واللوز، فترخص الأسعار بمكة ويرغد عيش أهلها وتعمم المرافق، ولولا أهل هذه البلاد لكان أهل مكة في شظف من العيش. ويذكر أنهم متى أقاموا ببلادهم، ولم يأتوا بهذه الميرة أجدبت بلادهم ووقع الموت في مواشيهم. ومتى أوصلوا الميرة أخصبت بلادهم وظهرت فيها البركة ونمت أموالهم. فهم إذا حان وقت ميرتهم وأدركهم كسل عنها، اجتمعت نساؤهم فأخرجنهم. وهذا من لطائف صنع الله تعالى وعنايته ببلده الأمين وبلاد السرو التي يسكنها بجيله وزهران وغامد وسواهم من القبائل مخصبة كثيرة الأعناب وافرة الغلات، وأهلها فصحاء الألسن، لهم صدق نية وحسن اعتقاد. وهم إذا طافوا بالكعبة يتطارحون عليها، لائذين بجوارها، متعلقين بأستارها، داعين بأدعية يتصدع لرقتها القلوب: وتدمع العيون الجامدة، فترى الناس حولهم باسطي أيديهم مؤمنين على أدعيتهم. ولا يتمكن لغيرهم الطواف معهم، ولا استلام الحجر، لتزاحمهم على ذلك. وهم شجعان أنجاد، ولباسهم الجلود. وإذا وردوا مكة هابت اعراب الطريق مقدمهم، وتجنبوا اعتراضهم، ومن صحبهم من الزوار حمد صحبتهم. وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكرهم، وأثنى عليهم خيرا وقال: علموهم الصلاة يعلموكم الدعاء. وكفاهم شرفا دخولهم في عموم قوله صلى الله عليه وسلم الإيمان يمان والحكمة يمانية . وذكر أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان يتحرى وقت طوافهم ويدخل في جملتهم تبركا بدعائهم. وشأنهم عجيب كله، وقد جاء في أثر: زاحموهم في الطواف، فإن الرحمة تنصب عليهم صبا.
ذكر عادتهم في ليلة النصف من شعبان
وهذه الليلة من الليالي المعظمة عند أهل مكة، يبادرون فيها إلى أعمال البر من الطواف والصلاة جماعات وأفذاذا والاعتمار. ويجتمعون في المسجد الحرام جماعة، لكل جماعة إمام. ويوقدون السرج والمصابيح والمشاعل. ويقابل ذلك ضوء القمر فتتلألأ الأرض والسماء نورا ويصلون مائة ركعة، يقرأون في كل ركعة بأم القرآن وسورة الإخلاص، يكررونها عشرا وبعض الناس يصلون في الحجر منفردين، وبعضهم يطوفون بالبيت الشريف، وبعضهم قد خرجوا للاعتمار.
ذكر عادتهم في شهر رمضان المعظم
وإذا أهل هلال رمضان تضرب الطبول والدبادب عند أمير مكة. ويقع الاحتفال بالمسجد الحرام، من تجديد الحصر، وتكثير الشمع والمشاعل، حتى يتلألأ الحرم نورا، ويسطع بهجة وإشراقا. وتتفرق الأئمة فرقا. وهم الشافعية والحنبلية والحنفية والزيدية، وأما المالكية فيجتمعون على أربعة من القراء، يتناوبون القراءة ويوقدون الشمع ولا تبقى في الحرم زاوية ولا ناحية إلا وفيها قارئ يصلي بجماعة، فيرتج المسجد لأصوات القراء، وترق النفوس وتحضر القلوب وتهمل الأعين. ومن الناس من يقتصر على الطواف والصلاة في الحجر منفردا. والشافعية أكثر الأئمة اجتهادا، وعاداتهم أنهم إذا أكملوا التراويح المعتادة، وهي عشرون ركعة، يطوف إمامهم وجماعته. فإذا فرغ من الأسبوع ضربت الفرقعة التي ذكرنا أنها تكون بين يدي الخطيب يوم الجمعة، كان ذلك إعلاما بالعودة إلى الصلاة. ثم يصلي ركعتين، ثم يطوف أسبوعا هكذا إلى أن يتم عشرين ركعة أخرى. ثم يصلون الشفع والوتر، وينصرفون. وسائر الأئمة لا يزيدون على العادة شيئا. وإذا كان وقت السحور يتولى المؤذن الزمزمي التسحير في الصومعة التي بالركن الشرقي من الحرم، فيقوم داعيا ومذكرا ومحرضا على السحور، وهكذا يفعلون في سائر الصوامع. فإذا تكلم أحد منهم أجابه صاحبه، وقد نصبت في أعلى كل صومعة خشبة على رأسها عود معترض، قد علق فيه قنديلان من الزجاج كبيران يوقدان، فإذا قرب الفجر وقع الإيذان بالقطع مرة بعد مرة، وحط القنديلان، وابتدأ المؤذنون بالأذان. وأجاب بعضهم بعضا. ولديار مكة شرفها الله سطوح. فمن بعدت داره بحيث لا يسمع الأذان يبصر القنديلين المذكورين فيتسحر. حتى إذا لم يبصرها أقلع عن الأكل. وفي ليلة وتر من ليالي العشر الأواخر من رمضان يختمون القرآن ويحضر الختم القاضي والفقهاء والكبراء. ويكون الذي يختم بها أحد أبناء كبراء أهل مكة. فإذا ختم، نصب له منبر مزين بالحرير، وأوقد الشمع، وخطب. فإذا فرغ من خطبته استدعى أبوه الناس إلى منزله فأطعمهم الأطعمة الكثيرة والحلاوات وكذلك يصنعون في جميع ليالي الوتر. واعظم من تلك الليالي عندهم ليلة سبع وعشرين. واحتفالهم لها أعظم من احتفالهم لسائر الليالي. ويختم بها القرآن العظيم خلف المقام الكريم. وتقام إزاء حطيم الشافعية خشب عظام، توصل بالحطيم، وتعرض بينها ألواح طوال، وتجعل ثلاث طبقات، وعليها الشمع وقنديل الزجاج، فيكاد يغشى الأبصار شعاع الأنوار، ويتقدم الإمام، فيصلي فريضة العشاء الآخرة، ثم يبتدئ قراءة سورة القدر. وإليها يكون انتهاء قراءة الأئمة في الليلة التي قبلها وفي تلك الساعة يمسك جميع الأئمة عن التراويح تعظيما لختمة المقام، ويحضرونها متبركين، فيختم الإمام في تسليمتين، ثم يقوم خطيبا مستقبل المقام، فإذا فرغ من ذلك عاد الأئمة إلى صلاتهم، وانفض الجميع. ثم يكون الختم ليلة تسع وعشرين في المقام المالكي في منظر مختصر وعن المباهاة منزه موقر فيختم ويخطب.
ذكر عادتهم في شوال
وعادتهم في شوال، وهو مفتتح أشهر الحج المعلومات، أن يوقدوا المشاعل ليلة استهلاله، ويسرجون المصابيح والشمع، على نحو فعلهم في ليلة سبع وعشرين من رمضان. وتوقد السرج في الصوامع من جميع جهاتها، ويوقد سطح الحرم كله وسطح المسجد الذي بأعلى أبي قبيس، ويقيم المؤذنون ليلتهم تلك في تهليل وتكبير وتسبيح، والناس ما بين طواف وصلاة وذكر ودعاء فإذا صلوا صلاة الصبح أخذوا في أهبة العيد، ولبسوا أحسن ثيابهم، وبادروا لأخذ مجالسهم بالحرم الشريف، به يصلون صلاة العيد، لأنه لا موضع أفضل منه. ويكون أول من يبكر إلى المسجد الشيبيون فيفتحون باب الكعبة المقدسة، ويقعد كبيرهم في عتبتها، وسائرهم بين يديه، إلى أن يأتي أمير مكة فيتلقونه، ويطوف بالبيت أسبوعا، والمؤذن الزمزمي فوق سطح قبة زمزم على العادة، رافعا صوته بالثناء عليه والدعاء له ولأخيه كما ذكر، ثم يأتي الخطيب بين الرايتين السوداوين، والفرقعة أمامه، وهو لابس السواد، فيصلي خلف المقام الكريم، ثم يصعد المنبر ويخطب خطبة بليغة. ثم إذا فرغ منها أقبل الناس بعضهم على بعض بالسلام والمصافحة والاستغفار، ويقصدون الكعبة الشريفة فيدخلونها أفواجا، ثم يخرجون إلى مقبرة باب المعلى، تبركا بمن فيها من الصحابة وصدور السلف ثم ينصرفون.
ذكر إحرام الكعبة
وفي اليوم السابع والعشرين من شهر ذي القعدة تشمر أستار الكعبة، زادها الله تعظيما، إلى نحو ارتفاع قامة ونصف من جهاتها الأربع صونا لها من الأيدي أن تنتهبها. ويسمون ذلك إحرام الكعبة وهو يوم مشهود بالحرم الشريف. ولا تفتح الكعبة المقدسة من ذلك اليوم حتى تنقضي الوقفة بعرفة.
ذكر شعائر الحج وأعماله
وإذا كان في أول يوم شهر ذي الحجة، تضرب الطبول والدبادب في أوقات الصلوات بكرة وعشية، إشعارها بالموسم المبارك. ولا تزال كذلك إلى يوم الصعود إلى عرفات. فإذا كان اليوم السابع من ذي الحجة خطب الخطيب إثر صلاة الظهر خطبة بليغة، يعلم الناس فيها مناسكهم، ويعلمهم بيوم الوقفة، فإذا كان اليوم الثاني بكر الناس بالصعود إلى منى. وأمراء مصر والشام والعراق وأهل العلم يبتيون تلك الليلة بمنى وتقع المباهاة والمفاخرة بين أهل مصر والشام والعراق في إيقاد الشمع. ولكن الفضل في ذلك لأهل الشام دائما. فإذا كان اليوم التاسع رحلوا من منى بعد صلاة الصبح إلى عرفة. فيمرون في طريقهم بوادي محسر، ويهرولون، وذلك سنة. ووادي محسر هو الحد ما بين مزدلفة ومنى، ومزدلفة بسيط من الأرض فسيح بين جبلين، وحولها مصانع وصهاريج للماء، مما بنته زبيدة ابنة جعفر بن أبي جعفر المنصور زوجة أمير المؤمنين هارون الرشيد. وبين منى وعرفة خمسة أميال، وكذلك بين منى ومكة أيضا خمسة أميال. ولعرفة ثلاثة أسماء وهي، عرفة وجمع والمشعر الحرام، وعرفات بسيط من الأرض فسيح أفيح، تحدق به جبال كثيرة. وفي آخر بسيط عرفات جبل الرحمة، وفيه الموقف، وفيما حوله، والعلمان قبله بنحو ميل، وهما الحد ما بين الحل والحرم. وبمقربة منهما مما يلي عرفة بطن عرنة الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالارتفاع عنه، ويجب التحفظ منه، ويجب أيضا الإمساك عن النفور حتى يتمكن سقوط الشمس. فإن الجمالين ربما استحثوا كثيرا من الناس، وحذروهم الزحام في النفر، واستدرجوهم إلى أن يصلوا بهم بطن عرنة، فيبطل حجهم. وجبل الرحمة الذي ذكرناه قائم وسط بسيط جمع منقطع عن الجبال، وهو من حجارة منقطع بعضها عن بعض. وفي أعلاه قبة تنسب إلى أم سلمة رضي الله عنهما، وفي وسطها مسجد يتزاحم الناس للصلاة فيه، وحوله سطح فسيح يشرف على بسيط عرفات، وفي قبليه جدار فيه محاريب منصوبة يصلي فيه الناس، وفي أسفل هذا الجبل عن يسار المستقبل للكعبة دار عتيقة البناء تنسب إلى آدم عليه السلام، وعن يسارها الصخرات التي كان موقفف النبي صلى الله عليه وسلم عندها، وحول ذلك صهاريج وجبات للماء، وبمقربة منه الموضع الذي يقف في الإمام ويخطب ويجمع بين الظهر والعصر، وعن يسار العلمين للمستقبل أيضا وادي الأراك وبه أراك اخضر يمتد في الأرض امتدادا طويلا، وإذا حان وقت النفر أشار الإمام المالكي بيده، ونزل عن موقفه، فدفع الناس بالنفر دفعة ترتج لها الأرض، وترجف الجبال. فياله موقفا كريما ومشهدا عظيما ترجو النفوس حسن عقباه، وتطمح الآمال إلى نفحات رحماه، وجعلنا الله ممن خصه فيه برضاه. وكانت وقفتي الأولى يوم الخميس سنة ست وعشرين، وأمير الركب المصري يومئذ أرغون الدوادار نائب الملك الناصر. وحجت في تلك السنة ابنة الملك الناصر وهي زوجة أبي بكر ابن أرغون المذكور.وحجت فيها زوجة الملك الناصر والمسماة بالخونده، وهي بنت السلطان المعظم محمد أوزبك ملك السرا وخوارزم، وأمير الركب الشامي سيف الدين الجوبان. ولما وقع النفر بعد غروب الشمس، وصلنا مزدلفة عند العشاء الآخرة، فصلينا بها المغرب والعشاء جمعا بينهما حسبما جرت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولما صلينا الصبح بمزدلفة غدونا منها إلى منى بعد الوقوف والدعاء بالمشعر الحرام. ومزدلفة كلها موقف إلا وادي محسر، ففيه تقع الهرولة حتى يخرج عنه. ومن مزدلفة يستصحب أكثر الناس حصيات الجمار، وذلك مستحب. ومنهم من يلقطها حول مسجد الخيف. والأمر في ذلك واسع. ولما انتهى الناس إلى منى بادروا لرمي جمرة العقبة، ثم نحروا وذبحوا، ثم حلقوا وحلوا من كل شيء إلا النساء والطيب حتى يطوفوا طواف الافاضة ورمي هذه الجمرة عند طلوع الشمس من يوم النحر. لما رموها توجه أكثر الناس بعد أن ذبحوا وحلقوا إلى طواف الإفاضة. ومنهم من أقام إلى اليوم الثاني. وفي اليوم الثاني رمى الناس عند زوال الشمس بالجمرة الأولى سبع حصيات، وبالوسطى كذلك، ووقفوا للدعاء بهاتين الجمرتين اقتداء بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولما كان اليوم الثالث تعجل الناس الانحدار إلى مكة شرفها الله، بعد أن كمل لهم رمي تسع وأربعين حصاة. وكثير منهم أقام اليوم الثالث بعد يوم النحر حتى رمي سبعين حصاة.
ذكر كسوة الكعبة
وفي يوم النحر بعثت كسوة الكعبة الشريفة من الركب المصري إلى البيت الكريم، فوضعت في سطحه، فلما كان اليوم الثالث بعد يوم النحر أخذ الشيبيون في إسبالها على الكعبة الشريفة. وهي كسوة سوداء حالكة من الحرير مبطنة بالكتان وفي أعلاها طراز مكتوب فيه بالبياض جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما الآية. وفي سائر جهاتها طراز مكتوب بالبياض فيها آيات من القرآن، وعليها نور لائح مشرق من سوادها. ولما كيست شمرت أذيالها صونا من أيدي الناس. والملك الناصر هو الذي يتولى كسوة الكعبة الكريمة، ويبعث مرتبات القاضي والخطيب والأئمة والمؤذنين والفراشين والقومة، وما يحتاج له الحرم الشريف من الشمع والزيت في كل سنة. وفي هذه الأيام تفتح الكعبة الشريفة في كل يوم للعراقيين والخراسانين وسواهم ممن يصل مع الركب العراقي، وهم يقيمون بمكة بعد سفر الركبين الشامي والمصري أربعة أيام، فيكثرون فيها الصدقات على المجاورين وغيرهم. ولقد شاهدتهم يطوفون بالحرم ليلا، فمن لقوه في الحرم من المجاورين أو المكيين أعطوه الفضة والثياب، وكذلك يعطون للمشاهدين الكعبة الشريفة، وربما وجدوا إنسانا نائما فجعلوا في فيه الذهب والفضة حتى يفيق. ولما قدمت معهم من العراق سنة ثمان وعشرين فعلوا من ذلك كثيرا، وأكثروا الصدقة حتى رخص سوم الذهب بمكة، وانتهى صرف المثقال إلى ثمانية عشر درهما نقرة، لكثرة ما تصدقوا به من الذهب. وفي هذه السنة ذكر اسم السلطان أبي السعيد ملك العراق على المنبر وقبة زمزم