هذه القصيدة الوعظية الجميلة للإمام ابن حزم الأندلسي عليه رحمة الله تعالى :
أعارتك دنيا مسترد
معارها * غضارة عيش سوف يذوي اخضرارها
وهل يتمنى المحكم الرأي عيشة * وقد حان من دهم المنايا مزارها
وكيف تلذ العين هجعة ساعة * وقد طال فيما عاينته اعتبارها
وكيف تقر النفس في دار نقلة * قد استيقنت أن ليس فيها قرارها
وأتى له في الأرض خاطر فكرة * ولم تدر بعد الموت أين محارها
أليس لها في السعي للفوز شاغل * أما في توفيها العذاب ازدجارها
فخابت نفوس قادها لهو ساعة * إلى حر نار ليس يطفي أوارها
لها سائق حاد حثيث مبادر * إلى غير ما أضحى إليه مدارها
تراد لأمر وهي تطلب غيره * وتقصد وجهاً في سواه سفارها
أمسرعة فيما يسوء قيامها * وقد أيقنت أن العذاب قصارها
تعطل مفروضاً وتعني بفضلة * لقد شفها طغيانها واغترارها
إلى ما لها منه البلاء سكونها * وعما لها منه النجاح نفارها
وتعرض عن رب دعاها لرشدها * وتتبع دنيا جد عنها فرارها
فيأيها المغرور بادر برجعة * فلله دار ليس تخمد نارها
ولا تتخير فانياً دون خالد * دليل على محض العقول اختيارها
أتعلم أن الحق فيما تركته * وتسلك سبلاً ليس يخفى عوارها
وتترك بيضاء المناهج ضلة * لبهماء يؤذي الرجل فيها عثارها
تسر بلهو معقب بندامة * إذا ما انقضى لا ينقضى مستثارها
وتفنى الليالي والمسرات كلها * وتبقى تباعات الذنوب وعارها
فهل أنت يا مغبون مستيقظ فقد * تبين من سر الخطوب استتارها
فعجل إلى رضوان ربك واجتنب * نواهيه إذ قد تجلي منارها
يجد مرور الدهر عنك بلاعب * وتغرى بدنيا ساء فيك سرارها
فكم أمة قد غرها الدهر قبلنا * وهاتيك منها مقفرات ديارها
تذكروا على ما قد مضى واعتبر به * فإن المذكي للعقول اعتبارها
تحامى ذراها كل باغ وطالب * وكان ضماناً في الأعادي انتصارها
توافت ببطن الأرض وانشت شملها * وعاد إلى ذي ملكه استعارها
وكم راقد في غفلة عن منية * مشمرة في القصد وهو سعارها
ومظلمة قد نالها متسلط * مدل بأيد عند ذي العرش ثارها
أراك إذا حاولت دنياك ساعياً * على أنها باد إليك أزورارها
وفي طاعة الرحمن يقعدك الونى * وتبدي أناة لا يصح اعتذارها
تحاذر إخواناً ستفنى وتنقضي * وتنسى التي فرض عليك حذارها
كأني أرى منك التبرم ظاهراً * مبيناً إذا الأقدار حل اضطرارها
هناك يقول المرء من لي بأعصر * مضت كان ملكاً في يدي خيارها
تنبه ليوم قد أظلك ورده * عصيب يوافي النفس فيها احتضارها
تبرأ فيه منك كل مخالط * وآن من الآمال فيه انهيارها
فأودعت في ظلماء ضنك مقرها * يلوح عليها للعيون إغبرارها
تنادي فلا تدري المنادي مفرداً * وقد حط عن وجه الحياة خمارها
تنادي إلى يوم شديد مفزع * وساعة حشر ليس يخفى اشتهارها
إذا حشرت فيه الوحوش وجمعت * صحائفنا وإنثال فينا انتثارها
وزينت الجنات فيه وأزلفت * وأذكى من نار الجحيم استعارها
وكورت الشمس المنيرة بالضحى * وأسرع من زهر النجوم إنكدارها
لقد جل أمر كان منه انتظامها * وقد حل أمر كان منه انتثارها
وسيرت الأجبال والأرض بدلت * وقد عطلت من مالكيها عشارها
فإما لدار ليس يفنى نعيمها * وإما لدار لا يفك إسارها
بحضرة جبار رفيق معاقب * فتحصى المعاصي كبرها وصغارها
ويندم يوم البعث جاني صغارها * وتهلك أهليها هناك كبارها
ستغبط أجساد وتحيا نفوسها * إذا ما ستوى إسرارها وجهارها
إذا حفهم عفو الإله وفضله * وأسكنهم داراً حلالاً عقارها
سيلحقهم أهل الفسوق إذا استوى * بجلبة سبق طرفها وحمارها
يفر بنو الدنيا بدنياهم التي * يظن على أهل الحظوظ اقتصارها
هي الأم خير البر فيها عقوقها * وليس بغير البذل يحمى ذمارها
فما نال منها الحظ إلا مهينها * وما الهلك إلا قربها واعتمارها
تهافت فيها طامع بعد طامع * وقد بان للب الذكي اختبارها
تطامن لغمر الحادثات ولا تكن * لها ذا اعتمار يجتنبك غمارها
وإياك أن تغتر منها بما ترى * فقد صح في العقل الجلي عيارها
رأيت ملوك الأرض يبغون هدة * ولذة نفس يستطاب اجترارها
وخلوا طريق القصد في مبتغاتهم * لمتبعه الصفار جم صغارها
وإن التي يبغون نهج بقية * مكين لطلاب الخلاص اختصارها
هل العز إلا همة صح صونها * إذا صان همات الرجال انكسارها
وهل رايح إلا امرؤ متوكل * قنوع غني النفس باد وقارها
ويلقى ولاة الملك خوفاً وفكرة * تضيق بها ذرعاً ويفنى اصطبارها
عياناً ترى هذا ولكن سكرة * أحاطت بنا ما إن يفيق خمارها
قد برهن الباني على الأرض سقفها * وفي علمه معمورها وقفارها
ومن يمسك الأجرام والأرض أمره * بلا عمد يبني عليه قرارها
ومن قدر التدبير فيها بحكمة * فصح لديها ليلها ونهارها
ومن فتق الأمواه في صفح وجهها * فمنها يغذي حبها وثمارها
ومن صير الألوان في نور نبتها * فأشرق فيها وردها وبهارها
فمنهن مخضر يروق بصيصه * ومنهن ما يغشى اللحاظ احمرارها
ومن حفر الأنهار دون تكلف * فصار من الصم الصلاب انفجارها
ومن رتب الشمس المنير أبيضاضها * غدوا ويبدو بالعشي اصفرارها
ومن خلق الأفلاك فامند جريها * وأحكمها حتى استقام مدارها
ومن إن ألمت بالعقول رزية * فلس إلى حي سواه افتقارها
تجد كل هذا راجع نحو خالق * له ملكها منقادة وائتمارها
أبان لنا الآيات في أنبيائه * فأمكن بعد العجز فيها اقتداها
فأنطق أفواهاً بألفاظ حكمة * وما حلها إثغارها وأتغارها
وأبرز من صم الحجارة ناقة * وأسمعهم في الحين منها حوارها
ليوقن أقوام وتكفر عصبة * أتاها بأسباب الهلاك قدارها
بوشق لموسى البحر دون تكلف * وبان من الأمواج فيه انحسارها
وسلم من نار الأونوق خليله * فلم يؤذه إحراقها واعترارها
ونجى من الطوفان نوحاً وقد هدت * به أمة أبدى الفسوق شرارها
ومكن داوداً بأيد وابنه * فتعسيرها ملقى له وبدارها
وذلل جبار البلاد لأمره * وعلم من طير السماء حوارها
وفضل بالقرآن أمة أحمد * ومكن في أقصى البلاد مغارها
وشق له بدر السماء وخصه * بآيات حق لا يخل معارها
وأنقذنا من كفر أربابنا به * وكان على قطب الهلاك منارها
فما بالنا لا نترك الجهل ويحنا * لنسلم من نار ترامى شرارها