الساري
2007-12-25, 01:09 PM
نظرة على بعض النواحي الإجتماعية بمحافظة العلا
بسم الله الرحمن الرحيم . الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على اشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا وحبيبنا محمد ابن عبد الله الأمين ، وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين . . أما بعد:
ففي هذه العجالة سوف نلقي الضوء على بعض النواحي الاجتماعية في مدينة العلا قديما وحديثا . والحديث عن العلا وأهل العلا ذو شجون لن نستطيع تغطيته بأسطر معدودة ، ولكني سأوجز قدر المستطاع ، وآمل أن أوفق بإيصال المعلومة المفيدة للقراء الكرام .
وبادئ ذي بدئ ، فالعلا زهرة بكر لم تتفتح بعد من بين باقة زهور مع شقيقاتها مدن المملكة الغالية ، وبرعم من أصل شجرة طيبة ، ترعاها يدل الله ومن ثم يد حكامنا الكرام وفقهم الله وسدد على دروب الخير خطاهم .
فالعلا صندوق كنز لم يفتح بعد ، وهي منبع الخير الوفير منذ أن عرفت على مر العصور والأزمان ، رغم تداول الدول والممالك وهي سلة خبز لسكانها ولمن حولها من القرى والهجر ولمن مر عليها أو استقر بها.
فموقعها الإستراتيجي بين الشام والحجاز ، وخصوبة أرضها ، ووفرة مياهها ، وطيبة وكرم أهلها ، جعل منها واحة غناء يقصدها الكثير ويخصها بالزيارة .
وأهل العلا يمتازوا عن غيرهم في علاقاتهم الاجتماعية بترابطهم وتحابهم وتشاورهم في مجمل الأمور. والولاء والإخلاص لولاة الأمر بشكل مطلق.
ولقد جرت العادة منذ عدة قرون على أن كل من اتخذ العلا منزلاً دائماً له أن يسجل عند أهلها اسمه ونسبه وأصله وموطنة الذي نزح منه وهي قاعدة من القواعد ألمعروفه في العلا ويدخل مع احد العشائر بعد أن يولم ويجتمع مشايخ العشائر ويصدروا بذلك قرارا بضمة لتلك العشيرة التي احتضنته ليكون واحدا منهم له ما لهم وعليه ما عليهم ويدون اسمه في قاعدة الأنساب التي يحتفظ بها عادة شيخ العشيرة. وقد اشتهرت العلا بأنها قاعدة للأنساب، كما اشتهر أهل العلا بعلم الفلك والحساب ، والعلم والمعرفة ، وقيل أنهم أول من طور الخط العربي .
والدارس لكيفية البناء في البلدة القديمة للعلا المسماة بـ ( الديرة ) يستطيع أن يكتشف ترابطهم الأسري من الملاحظات التالية:
• ترابط البيوت بعضها البعض مما يجعل منها كتلة واحدة كل بيت يعتمد على البيت الآخر هيكليا ، وهذا دليل على التلاحم والترابط والتصافي والتواد.
• عدم وجود مكان لاستقبال الضيوف ، وذلك لأنهم يعتبروا أسرة واحدة وليس بينهم ضيوف ، أما إذا جاء للبلد ضيف من خارجها فمكانه (قهوة الشيخ) والتي يطلق عليها مقاهي العشائر وقد تحدث عنها الدكتور إبراهيم المحفوظ في كتابه مقاهي العشائر بالعلا . وفي تلك المقاهي يتم إكرام الضيف ، والاجتماعات العشائرية واستقبال الزوار والضيوف ، واجتماعات لحل المشاكل والخلافات بكل أنواعها.
وفي قصة التكاتف المشهورة لصد هجوم ابن الرشيد على العلا لأخذ الثأر لمن قتل ابن العاملة خير مثال على تلاحمهم حول مشايخهم .
والقصة باختصار كما يرويها كبار السن ممن عاصروا الحادث كما يلي:
انه في زمن حكم ابن رشيد ، ولي عليهم عامل ظالم أرهق أهل العلا بالضرائب وطلب الهبات والهدايا ، مما شق عليهم واثر على دخلهم المحدود فرفضوا الانصياع لتلك الضغوط مما حدا أحد كبار المشايخ آن ذاك وهوالشيخ ( سعيد بن عبد الدائم ) بأن يكيد لأبن العاملة ويقتله وكان ذلك عام 1309هـ ، مما جعل من العاملة يفر إلى حائل مستنجدا بابن الرشيد . وأهل العلا يعرف عنهم أنهم قوم مسالمين طيبين ينبذوا العنف ولا يسعوا له إلا إذا اضطرتهم الحالة . وعندما علموا أن ابن الرشيد يريد الهجوم عليهم ، اجتمعوا جميعا ممثلين بمشايخهم السبعة ووضعوا خطة دفاعية محكمة ، منها بناء سور شمال البلدة أطلق عليه سور السبعة شارك في بناءة كل أهل البلد صغيرهم وكبيرهم ونسائهم وتم بناء السور في فترة وجيزة قيل أنها لم تتجاوز الشهر.
وعند وصول عيون ابن رشيد لاستطلاع أحوالهم قبل الهجوم عليهم، عملوا خطة دفاعية محكمة استطاعوا من خلالها أن يظهروا قوتهم بحيث تفوق الواقع مما خدع عيون بن رشيد وجعل منه يتراجع عن الهجوم على العلا واكتفى بأخذ الدية عن ابن العاملة.
وبالمناسبة فرجال العلا ( وادي القرى ) يمتازوا بالشجاعة والكرم وقوة الأبدان وضخامة الأجسام مما جعلهم مستهدفين منذ قديم الزمان بالإنظمام إلى صفوف الجند والقوات المسلحة ، وقد برز منهم في أوائل العصر الإسلامي القائد المشهور ( موسى بن نصير ، وابنه عبد الرحمن ) وهما غنيان عن التعريف . وغيرهم الكثير وفي عصرنا الحاضر نجد مئات الضباط وآلاف من صف الضباط ممن انخرطوا في صفوف قواتنا المسلحة الباسلة في مختلف قطاعاتها وفروعها ، وكان ولا يزال لهم مشاركاتهم الطيبة ولهم بفضل الله السمعة الحسنة.
ومن الأمثلة الأخري لتكاتف ابناء العلا فيظهر جليا عندما ينوي احدهم ببناء بيت او اقامة حفل زواج ، او الحاجة لحرث قطعة ارض وزرعها. فما عليه إلا أن يعلن عن رغبته ويحدد الموعد ، فيجد الجميع يقف معه وقفة رجل واحد ( يفزع له ) اما بالمال او بإحضار القوايد او يعمل بيده ما يستطيعة وحتى كبار السن يجتمعوا ليرفعوا من حماس الشباب في العمل بجد وإخلاص لإنهاء العمل بوقت قياسي .
ولا يقتصر التكاتف والتعاون على الرجال فحسب ، ولكن للمرأة العلاوية دور عظيم في ذلك ، فهن يجتمعن في تحضير الأثاث المنزلي للعروس ، ويقمن في مساندة الرجل باعماله اليومية بالمزرعة ، ويجتمعن لزراعة البصل ، والبندورة ، وحصاد القمح ، وصرام النخيل، واعداد مؤنة رمضان بعمل خيوط المكرونة المحليه والتي يطلقون عليها ( الشعرية ) .
وللمرأة العلاوية خصائص لا توجد في غيرها إلا القليل ، فقد امتازت المرأة العلاوية بمساندتها لبعلها ، وكذلك بجمالها ورشاقة قدها ، ورجاحة عقلها ، وإخلاصها لزوجها واسرتها مما جعل الكثير من الشعراء يتغنوا بها ، وبالعلا ظهر الحب العذري ومنها عرف الحب الحقيقي الشريف العفيف ، وكلنا يعرف قصة جميل وبثينة وكثير عزة وغيرهم من الشعراء العذريين . والمرأة العلاوية بها من الأنوثة ما لا تملكه أي امرأة في العالم . وحنانها حنان طاغي حنان يذوب الصخر ومحبتها لبعلها ( زوجها ) هي سبب سعادتها. ولغة العيون لديها تسحق الروح بين الضلوع ومن كان يفكر في الحب يجد نفسه في جنة الحب طائر بأجنحة من أبخرة العطر من أنفاسها. عيونها حنونة ونفسها دافئة وأحضانها تسحق الكبرياء و التكبر .
وخير مثال على المرأة العلاوية تلك التي عشقها معاوية ابن ابي سفيان وقصتها باختصار كما يلي:
انه جاء أعرابي من وادي القرى ( العلا ) إلى معاوية يشكوا عليه عامله ( مروان ابن الحكم ) ويدعي أن مروان قد تآمر مع والد زوجته فطلقها منه وتزوجها لنفسه ، وقال من مجمل شكواه الأبيات التالية:
معاوي يا ذا العلم والحلم والفضــل
وياذا الندى والجود النبل والجـزل
أتيتك لما ضاق في الأرض مذهبي
فياغيث لا تقطع رجائي من العـدل
وجد لي بإنصاف من الجائر الـذي
شواني شيّاً كان أيسـره قـتلـي
فأرسل معاوية لعاملة وطلب منه أن يطلق المرأة وليحضر لمجلسة ليحكم في الموضوع ، فلما وصل المرسول لمروان وشاهدوا المرأة قالوا إنها لا تصلح إلا أن تكون لأمير المؤمنين معاوية فاحضروها معهم . فلما رآها معاوية فتن فيها فشعر بذلك الأعرابي وقال قصيده طويلة منها البيت المشهور الذي صار مثلا والذي قال فيه:
لاتجعلني هداك الله من ملــكٍ
كالمستجيرمن الرّمضاء بالنــّار
فما كان من معاوية إلا أن يطلب منه أن يتركاها له ويغنيه ويقربه منه فرفض ذلك فقال له معاوية: يا أعرابي؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين. قال: إنك مقرٌّ عندنا أنّك قد طلّقتها، وقد بانت منك ومن مروان، ولكن نخيّرها بيننا. قال: ذاك إليك، يا أمير المؤمنين.
فتحوّل معاوية نحوها ثمّ قال لها: يا سعدى أيّنا أحبّ إليك: أمير المؤمنين في عزّه وشرفه وقصوره، أو مروان في غصبه واعتدائه، أو هذا الأعرابي في جوعه وإطماره ؟ فأشارت الجّارية نحو ابن عمّها الأعرابي، ثمّ أنشأت تقول:
هذا وإن كان في جوعٍ وأطمـار
أعزّعندي من أهلي ومن جـاري
وصاحب التّاج أو مروان عامله
وكل ّذي درهمٍ منهـم ودينـار
ثمّ قالت: لست، والله، يا أمير المؤمنين لحدثان الزمان بخاذلته، ولقد كانت لي معه صحبة جميلة، وأنا أحقّ من صبر معه على السّرّاء والضّرّاء، وعلى الشّدّة والرّخاء، وعلى العافية والبلاء، وعلى القسم الذي كتب الله لي معه. فعجب معاوية ومن معه من جلسائه من عقلها وكمالها ومروءتها وأمر لها بعشرة آلاف درهمٍ وألحقها في صدقات بيت المسلمين.
ذلك أنموذج من الوفاء للمرأة العلاوية التي أصبحت عملة نادرة في زمننا هذا.
وعودا إلى ذي بدئ لنتحدث عن أهمية العلا ومن أين اكتسبتها ، فالعلا كما أسلفنا تقع في منطقة إستراتيجية مما جعل منها محطة هامة في طريق القوافل التجارية بين الشمال والجنوب ومركزا مهما على طريق الحاج الشامي والمصري الذين يلتقيان بالعلا ( وادي القرى ) وينطلقا سويا في اتجاه المدينة المنورة وكذلك جزء هاما في طريق الحاج العراقي الذي يأتي عن طريق دومة الجندل. وكانت محطة رئيسية في الخط الحديدي الحجازي ذلك الوقف الإسلامي المعطل والذي أتمنى وكل مسلم أن يعاد تشغيله . فهو خط حديدي انفق عليه من بيت مال المسلمين وكلف ما يقارب ثلاثة ملايين ونصف ليرة عثمانية ، وأقيم في عهد السلطان عبد الحميد الثاني ، وقد اختصر المسافة على الحجاج بيت الله الحرام من 44 يوما إلى 72ساعة فقط ما بين اسطنبول والمدينة المنورة.
الجدير بالذكر أن العمالة التي أقامت الخط الحديدي الحجازي كانت عمالة مسلمة 100% والمبالغ التي أنفقت علية من بيت مال المسلمين خالصة ، فقد تم جمع جلود الأضاحي وبيعها لمصلحة المشروع ، وتم اقتطاع نسبة 10% من مرتبات الموظفين لذلك الغرض وتبرع السلطان عبد الحميد بـ 320 الف ليرة . وتبرع شاه إيران بمبلغ 50 الف ليرة ، وأرسل خديوي مصر ( عباس حلمي الثاني ) كميات كبيرة من مواد البناء ، وتم تأليف لجان لجمع التبرعات في كل الأقطار الإسلامية حتى تم إكمال المبلغ المطلوب إنشاؤه وتم ذلك ، في عام 1318هـ.
ويبلغ طول الخط 1320 كيلو متر وقد وصل أول قطار للمدينة المنورة في 22 رجب 1326هـ واستمر العمل به تسع سنوات ، وتم تدميره أثناء الحرب العالمية الثانية عام 1336هـ .
والعلا كما أسلفت كنز لم يكتشف بعد ، وتعتبر ثرورة مهدرة يجب الحفاظ عليها واستغلالها الإستغلال الحسن ليكون بذلك مصدر دخل للدولة ورافد مهم للدخل الأساسي البترول. فالعلا فيها كنوز الآثار مما لا يقدر بثمن ولكن تحتاج إلى تكاتف الجهود للبحث والتنقيب ، وإظهار تلك الكنوز للعيان ، وإنشاء البنية التحتية اللازمة لاستقبال السياح والخبراء والزوار والمهتمين بالآثار والتاريخ . فهي بحق عاصمة التاريخ ، وهي أيضا منطقة طبيعية بكر حباها الله بجمال وسحر الطبيعة واعتدال المناخ. وقد تحتاج إلى الإسراع بتنفيذ مشروع مطارها المحلي الذي طال انتظاره ، وازدواجية الطرق الموصلة إليها شمالا وجنوبا وشرقا وغربا. وغيرها من المنشآت الخدمية اللازمة لمثل ذلك الهدف. وفي منطقة العلا توجد العديد من المعادن كالحديد والنحاس بكميات تجارية وغيرها من المعادن التي أتمنى أن يتم التنقيب عنها واستغلالها الاستغلال الأمثل.
فهي بلد كل من زارها أحبها وتغزل بجمالها فقد قال صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبد العزيز حفظه الله أثناء زيارته لها قال:
لو خيرت في الإقامة بمكان لاخترت الإقامة في مدينة العلا
وقال الرحالة ابن بطوطة الذي زارها عام 726هـ قال: العلا قرية كبيرة حسنة ولها بساتين ونخل ومياه يقيم بها الحجاج أربعاً يتزودون ويغتسلون ويودعون فيها ما يكون عندهم من فضل زاد ويصطحبون معهم قدر الكفاية وأهل هذه القرية أصحاب أمانة
وقال الشيخ على الطنطاوي يرحمه الله الذي زارها عام 1355هـ قال:
هذا هو وادي القرى ـ العلا ـ كما أوردته كتب التاريخ والآثار وتحاورت به ألسن الشعراء ، إنه العلا ذلك الاسم الحديث الذي أطلق على وادي القرى. والعلا قرية صغيرة جميلة تقع في وادي ضيق تحف به الجبال الممتعة ذات الأشكال الغريبة ولونها أحمر كوادي العين الخضراء في الشام. إلى أن قال في وصفه عند مغادرته العلا
فلما مشينا جاوزنا ذلك الوادي عادت الصحراء إلى ناظرنا واختفت تلك الجنائن فتذكرت قصة المدينة المفقودة.
وقال فيها صلاح الدين الصفدي:
خرجنا نحو طيبة من دمشق
بأفئدة للقيـاهـا حـرار
ولكن في العلا زدنا اشتياقا
كأن قلـوبنـا حشيت بنـار
وقال جميل بثينة:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة
بوادي القرى إني إذا لسعيد
وقال الكاتب المعروف مشعل السديري: إنني أعتبر العلا من أجمل المناطق في الجزيرة العربية حيث تمتزج غابات النخيل بتراكمات المنازل من مئات المئات من السنين وتحوطها بتكوينات الجبال الباذخة في ألوانها كما تحوط الإسورة بمعصم حسناء.
وقال أعضاء البعثة العلمية الكندية الأمريكية: إن العلا بلا شك هي أجمل واحة في كل شمال الجزيرة العربية .
أما أستاذنا الفاضل وأخينا العزيز الدكتور/ عبد الرحمن الأنصاري فقد أطلق عليها مسمى ( عاصمة الآثار بالمملكة العربية السعودية ) .
ومن هذا المنبر المبارك اسطر إعجابي بأبناء العلا حاضرة وبادية وأخص المرأة العلاوية التي هي فعلا تستحق الإشادة والتقدير . والله اسأل أن يوفقنا جميعا لما يحب ويرضى ، والحمد لله رب العالمين.
أ. د. محمد بن حمد خليص الحربي
بسم الله الرحمن الرحيم . الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على اشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا وحبيبنا محمد ابن عبد الله الأمين ، وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين . . أما بعد:
ففي هذه العجالة سوف نلقي الضوء على بعض النواحي الاجتماعية في مدينة العلا قديما وحديثا . والحديث عن العلا وأهل العلا ذو شجون لن نستطيع تغطيته بأسطر معدودة ، ولكني سأوجز قدر المستطاع ، وآمل أن أوفق بإيصال المعلومة المفيدة للقراء الكرام .
وبادئ ذي بدئ ، فالعلا زهرة بكر لم تتفتح بعد من بين باقة زهور مع شقيقاتها مدن المملكة الغالية ، وبرعم من أصل شجرة طيبة ، ترعاها يدل الله ومن ثم يد حكامنا الكرام وفقهم الله وسدد على دروب الخير خطاهم .
فالعلا صندوق كنز لم يفتح بعد ، وهي منبع الخير الوفير منذ أن عرفت على مر العصور والأزمان ، رغم تداول الدول والممالك وهي سلة خبز لسكانها ولمن حولها من القرى والهجر ولمن مر عليها أو استقر بها.
فموقعها الإستراتيجي بين الشام والحجاز ، وخصوبة أرضها ، ووفرة مياهها ، وطيبة وكرم أهلها ، جعل منها واحة غناء يقصدها الكثير ويخصها بالزيارة .
وأهل العلا يمتازوا عن غيرهم في علاقاتهم الاجتماعية بترابطهم وتحابهم وتشاورهم في مجمل الأمور. والولاء والإخلاص لولاة الأمر بشكل مطلق.
ولقد جرت العادة منذ عدة قرون على أن كل من اتخذ العلا منزلاً دائماً له أن يسجل عند أهلها اسمه ونسبه وأصله وموطنة الذي نزح منه وهي قاعدة من القواعد ألمعروفه في العلا ويدخل مع احد العشائر بعد أن يولم ويجتمع مشايخ العشائر ويصدروا بذلك قرارا بضمة لتلك العشيرة التي احتضنته ليكون واحدا منهم له ما لهم وعليه ما عليهم ويدون اسمه في قاعدة الأنساب التي يحتفظ بها عادة شيخ العشيرة. وقد اشتهرت العلا بأنها قاعدة للأنساب، كما اشتهر أهل العلا بعلم الفلك والحساب ، والعلم والمعرفة ، وقيل أنهم أول من طور الخط العربي .
والدارس لكيفية البناء في البلدة القديمة للعلا المسماة بـ ( الديرة ) يستطيع أن يكتشف ترابطهم الأسري من الملاحظات التالية:
• ترابط البيوت بعضها البعض مما يجعل منها كتلة واحدة كل بيت يعتمد على البيت الآخر هيكليا ، وهذا دليل على التلاحم والترابط والتصافي والتواد.
• عدم وجود مكان لاستقبال الضيوف ، وذلك لأنهم يعتبروا أسرة واحدة وليس بينهم ضيوف ، أما إذا جاء للبلد ضيف من خارجها فمكانه (قهوة الشيخ) والتي يطلق عليها مقاهي العشائر وقد تحدث عنها الدكتور إبراهيم المحفوظ في كتابه مقاهي العشائر بالعلا . وفي تلك المقاهي يتم إكرام الضيف ، والاجتماعات العشائرية واستقبال الزوار والضيوف ، واجتماعات لحل المشاكل والخلافات بكل أنواعها.
وفي قصة التكاتف المشهورة لصد هجوم ابن الرشيد على العلا لأخذ الثأر لمن قتل ابن العاملة خير مثال على تلاحمهم حول مشايخهم .
والقصة باختصار كما يرويها كبار السن ممن عاصروا الحادث كما يلي:
انه في زمن حكم ابن رشيد ، ولي عليهم عامل ظالم أرهق أهل العلا بالضرائب وطلب الهبات والهدايا ، مما شق عليهم واثر على دخلهم المحدود فرفضوا الانصياع لتلك الضغوط مما حدا أحد كبار المشايخ آن ذاك وهوالشيخ ( سعيد بن عبد الدائم ) بأن يكيد لأبن العاملة ويقتله وكان ذلك عام 1309هـ ، مما جعل من العاملة يفر إلى حائل مستنجدا بابن الرشيد . وأهل العلا يعرف عنهم أنهم قوم مسالمين طيبين ينبذوا العنف ولا يسعوا له إلا إذا اضطرتهم الحالة . وعندما علموا أن ابن الرشيد يريد الهجوم عليهم ، اجتمعوا جميعا ممثلين بمشايخهم السبعة ووضعوا خطة دفاعية محكمة ، منها بناء سور شمال البلدة أطلق عليه سور السبعة شارك في بناءة كل أهل البلد صغيرهم وكبيرهم ونسائهم وتم بناء السور في فترة وجيزة قيل أنها لم تتجاوز الشهر.
وعند وصول عيون ابن رشيد لاستطلاع أحوالهم قبل الهجوم عليهم، عملوا خطة دفاعية محكمة استطاعوا من خلالها أن يظهروا قوتهم بحيث تفوق الواقع مما خدع عيون بن رشيد وجعل منه يتراجع عن الهجوم على العلا واكتفى بأخذ الدية عن ابن العاملة.
وبالمناسبة فرجال العلا ( وادي القرى ) يمتازوا بالشجاعة والكرم وقوة الأبدان وضخامة الأجسام مما جعلهم مستهدفين منذ قديم الزمان بالإنظمام إلى صفوف الجند والقوات المسلحة ، وقد برز منهم في أوائل العصر الإسلامي القائد المشهور ( موسى بن نصير ، وابنه عبد الرحمن ) وهما غنيان عن التعريف . وغيرهم الكثير وفي عصرنا الحاضر نجد مئات الضباط وآلاف من صف الضباط ممن انخرطوا في صفوف قواتنا المسلحة الباسلة في مختلف قطاعاتها وفروعها ، وكان ولا يزال لهم مشاركاتهم الطيبة ولهم بفضل الله السمعة الحسنة.
ومن الأمثلة الأخري لتكاتف ابناء العلا فيظهر جليا عندما ينوي احدهم ببناء بيت او اقامة حفل زواج ، او الحاجة لحرث قطعة ارض وزرعها. فما عليه إلا أن يعلن عن رغبته ويحدد الموعد ، فيجد الجميع يقف معه وقفة رجل واحد ( يفزع له ) اما بالمال او بإحضار القوايد او يعمل بيده ما يستطيعة وحتى كبار السن يجتمعوا ليرفعوا من حماس الشباب في العمل بجد وإخلاص لإنهاء العمل بوقت قياسي .
ولا يقتصر التكاتف والتعاون على الرجال فحسب ، ولكن للمرأة العلاوية دور عظيم في ذلك ، فهن يجتمعن في تحضير الأثاث المنزلي للعروس ، ويقمن في مساندة الرجل باعماله اليومية بالمزرعة ، ويجتمعن لزراعة البصل ، والبندورة ، وحصاد القمح ، وصرام النخيل، واعداد مؤنة رمضان بعمل خيوط المكرونة المحليه والتي يطلقون عليها ( الشعرية ) .
وللمرأة العلاوية خصائص لا توجد في غيرها إلا القليل ، فقد امتازت المرأة العلاوية بمساندتها لبعلها ، وكذلك بجمالها ورشاقة قدها ، ورجاحة عقلها ، وإخلاصها لزوجها واسرتها مما جعل الكثير من الشعراء يتغنوا بها ، وبالعلا ظهر الحب العذري ومنها عرف الحب الحقيقي الشريف العفيف ، وكلنا يعرف قصة جميل وبثينة وكثير عزة وغيرهم من الشعراء العذريين . والمرأة العلاوية بها من الأنوثة ما لا تملكه أي امرأة في العالم . وحنانها حنان طاغي حنان يذوب الصخر ومحبتها لبعلها ( زوجها ) هي سبب سعادتها. ولغة العيون لديها تسحق الروح بين الضلوع ومن كان يفكر في الحب يجد نفسه في جنة الحب طائر بأجنحة من أبخرة العطر من أنفاسها. عيونها حنونة ونفسها دافئة وأحضانها تسحق الكبرياء و التكبر .
وخير مثال على المرأة العلاوية تلك التي عشقها معاوية ابن ابي سفيان وقصتها باختصار كما يلي:
انه جاء أعرابي من وادي القرى ( العلا ) إلى معاوية يشكوا عليه عامله ( مروان ابن الحكم ) ويدعي أن مروان قد تآمر مع والد زوجته فطلقها منه وتزوجها لنفسه ، وقال من مجمل شكواه الأبيات التالية:
معاوي يا ذا العلم والحلم والفضــل
وياذا الندى والجود النبل والجـزل
أتيتك لما ضاق في الأرض مذهبي
فياغيث لا تقطع رجائي من العـدل
وجد لي بإنصاف من الجائر الـذي
شواني شيّاً كان أيسـره قـتلـي
فأرسل معاوية لعاملة وطلب منه أن يطلق المرأة وليحضر لمجلسة ليحكم في الموضوع ، فلما وصل المرسول لمروان وشاهدوا المرأة قالوا إنها لا تصلح إلا أن تكون لأمير المؤمنين معاوية فاحضروها معهم . فلما رآها معاوية فتن فيها فشعر بذلك الأعرابي وقال قصيده طويلة منها البيت المشهور الذي صار مثلا والذي قال فيه:
لاتجعلني هداك الله من ملــكٍ
كالمستجيرمن الرّمضاء بالنــّار
فما كان من معاوية إلا أن يطلب منه أن يتركاها له ويغنيه ويقربه منه فرفض ذلك فقال له معاوية: يا أعرابي؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين. قال: إنك مقرٌّ عندنا أنّك قد طلّقتها، وقد بانت منك ومن مروان، ولكن نخيّرها بيننا. قال: ذاك إليك، يا أمير المؤمنين.
فتحوّل معاوية نحوها ثمّ قال لها: يا سعدى أيّنا أحبّ إليك: أمير المؤمنين في عزّه وشرفه وقصوره، أو مروان في غصبه واعتدائه، أو هذا الأعرابي في جوعه وإطماره ؟ فأشارت الجّارية نحو ابن عمّها الأعرابي، ثمّ أنشأت تقول:
هذا وإن كان في جوعٍ وأطمـار
أعزّعندي من أهلي ومن جـاري
وصاحب التّاج أو مروان عامله
وكل ّذي درهمٍ منهـم ودينـار
ثمّ قالت: لست، والله، يا أمير المؤمنين لحدثان الزمان بخاذلته، ولقد كانت لي معه صحبة جميلة، وأنا أحقّ من صبر معه على السّرّاء والضّرّاء، وعلى الشّدّة والرّخاء، وعلى العافية والبلاء، وعلى القسم الذي كتب الله لي معه. فعجب معاوية ومن معه من جلسائه من عقلها وكمالها ومروءتها وأمر لها بعشرة آلاف درهمٍ وألحقها في صدقات بيت المسلمين.
ذلك أنموذج من الوفاء للمرأة العلاوية التي أصبحت عملة نادرة في زمننا هذا.
وعودا إلى ذي بدئ لنتحدث عن أهمية العلا ومن أين اكتسبتها ، فالعلا كما أسلفنا تقع في منطقة إستراتيجية مما جعل منها محطة هامة في طريق القوافل التجارية بين الشمال والجنوب ومركزا مهما على طريق الحاج الشامي والمصري الذين يلتقيان بالعلا ( وادي القرى ) وينطلقا سويا في اتجاه المدينة المنورة وكذلك جزء هاما في طريق الحاج العراقي الذي يأتي عن طريق دومة الجندل. وكانت محطة رئيسية في الخط الحديدي الحجازي ذلك الوقف الإسلامي المعطل والذي أتمنى وكل مسلم أن يعاد تشغيله . فهو خط حديدي انفق عليه من بيت مال المسلمين وكلف ما يقارب ثلاثة ملايين ونصف ليرة عثمانية ، وأقيم في عهد السلطان عبد الحميد الثاني ، وقد اختصر المسافة على الحجاج بيت الله الحرام من 44 يوما إلى 72ساعة فقط ما بين اسطنبول والمدينة المنورة.
الجدير بالذكر أن العمالة التي أقامت الخط الحديدي الحجازي كانت عمالة مسلمة 100% والمبالغ التي أنفقت علية من بيت مال المسلمين خالصة ، فقد تم جمع جلود الأضاحي وبيعها لمصلحة المشروع ، وتم اقتطاع نسبة 10% من مرتبات الموظفين لذلك الغرض وتبرع السلطان عبد الحميد بـ 320 الف ليرة . وتبرع شاه إيران بمبلغ 50 الف ليرة ، وأرسل خديوي مصر ( عباس حلمي الثاني ) كميات كبيرة من مواد البناء ، وتم تأليف لجان لجمع التبرعات في كل الأقطار الإسلامية حتى تم إكمال المبلغ المطلوب إنشاؤه وتم ذلك ، في عام 1318هـ.
ويبلغ طول الخط 1320 كيلو متر وقد وصل أول قطار للمدينة المنورة في 22 رجب 1326هـ واستمر العمل به تسع سنوات ، وتم تدميره أثناء الحرب العالمية الثانية عام 1336هـ .
والعلا كما أسلفت كنز لم يكتشف بعد ، وتعتبر ثرورة مهدرة يجب الحفاظ عليها واستغلالها الإستغلال الحسن ليكون بذلك مصدر دخل للدولة ورافد مهم للدخل الأساسي البترول. فالعلا فيها كنوز الآثار مما لا يقدر بثمن ولكن تحتاج إلى تكاتف الجهود للبحث والتنقيب ، وإظهار تلك الكنوز للعيان ، وإنشاء البنية التحتية اللازمة لاستقبال السياح والخبراء والزوار والمهتمين بالآثار والتاريخ . فهي بحق عاصمة التاريخ ، وهي أيضا منطقة طبيعية بكر حباها الله بجمال وسحر الطبيعة واعتدال المناخ. وقد تحتاج إلى الإسراع بتنفيذ مشروع مطارها المحلي الذي طال انتظاره ، وازدواجية الطرق الموصلة إليها شمالا وجنوبا وشرقا وغربا. وغيرها من المنشآت الخدمية اللازمة لمثل ذلك الهدف. وفي منطقة العلا توجد العديد من المعادن كالحديد والنحاس بكميات تجارية وغيرها من المعادن التي أتمنى أن يتم التنقيب عنها واستغلالها الاستغلال الأمثل.
فهي بلد كل من زارها أحبها وتغزل بجمالها فقد قال صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبد العزيز حفظه الله أثناء زيارته لها قال:
لو خيرت في الإقامة بمكان لاخترت الإقامة في مدينة العلا
وقال الرحالة ابن بطوطة الذي زارها عام 726هـ قال: العلا قرية كبيرة حسنة ولها بساتين ونخل ومياه يقيم بها الحجاج أربعاً يتزودون ويغتسلون ويودعون فيها ما يكون عندهم من فضل زاد ويصطحبون معهم قدر الكفاية وأهل هذه القرية أصحاب أمانة
وقال الشيخ على الطنطاوي يرحمه الله الذي زارها عام 1355هـ قال:
هذا هو وادي القرى ـ العلا ـ كما أوردته كتب التاريخ والآثار وتحاورت به ألسن الشعراء ، إنه العلا ذلك الاسم الحديث الذي أطلق على وادي القرى. والعلا قرية صغيرة جميلة تقع في وادي ضيق تحف به الجبال الممتعة ذات الأشكال الغريبة ولونها أحمر كوادي العين الخضراء في الشام. إلى أن قال في وصفه عند مغادرته العلا
فلما مشينا جاوزنا ذلك الوادي عادت الصحراء إلى ناظرنا واختفت تلك الجنائن فتذكرت قصة المدينة المفقودة.
وقال فيها صلاح الدين الصفدي:
خرجنا نحو طيبة من دمشق
بأفئدة للقيـاهـا حـرار
ولكن في العلا زدنا اشتياقا
كأن قلـوبنـا حشيت بنـار
وقال جميل بثينة:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة
بوادي القرى إني إذا لسعيد
وقال الكاتب المعروف مشعل السديري: إنني أعتبر العلا من أجمل المناطق في الجزيرة العربية حيث تمتزج غابات النخيل بتراكمات المنازل من مئات المئات من السنين وتحوطها بتكوينات الجبال الباذخة في ألوانها كما تحوط الإسورة بمعصم حسناء.
وقال أعضاء البعثة العلمية الكندية الأمريكية: إن العلا بلا شك هي أجمل واحة في كل شمال الجزيرة العربية .
أما أستاذنا الفاضل وأخينا العزيز الدكتور/ عبد الرحمن الأنصاري فقد أطلق عليها مسمى ( عاصمة الآثار بالمملكة العربية السعودية ) .
ومن هذا المنبر المبارك اسطر إعجابي بأبناء العلا حاضرة وبادية وأخص المرأة العلاوية التي هي فعلا تستحق الإشادة والتقدير . والله اسأل أن يوفقنا جميعا لما يحب ويرضى ، والحمد لله رب العالمين.
أ. د. محمد بن حمد خليص الحربي