صالح العديلي
2010-05-30, 11:03 AM
" حير" عمي سالم 200×150 " بوع " تقريبا ، يضم في صدره مايسميه عمي سالم "المنزلة " ،، منزل خمسيني طيني ،،أو أنه متحف أثري يسجل جزأ من تحولات تاريخ المنطقة ، صغير ، ومتهالك ،، وتئن جدرانه من تقلبات السنين والسنون ، والفصول الأربعة ، وسنوات التكية والغرقة والصخنة والجدري والغبار ،،،
خلف برميل "القاز" وفي زاوية مدخله القريب من الباب "الطالعي" ورشة صغيرة لسيكل عمي سالم "الست وعشرين " يتوسطه موقف السيكل الشهير ،،وعدد وبقايا زيوت متناثرة ،، وسحارة حديد حوت كل مسمار ليس له صامولة ، وكل صامولة لايوجد لها مسمار .
تتناثر في المساحات الفارغة من "سويق القهوة " أشكال متعددة ، ومختلفة المقاسات من الفخاخ والعصي والفؤوس ، والمرس ، والمحافر ، والمناسيف ،،، وبقية فرش ، وخصاصيف ، وزبلان ، وقفاف ، وسلال ، صنعت من سعف النخل ، ، وفوانيس ، وسرج معلقة ، وغير معلقة ، وبعضا من بقايا أسلحة وعددا وأدوات يدوية للزراعة والحفر ، والسفر القريب ، ورحلات البرّ والصيد والقنص ، ،، ، وأنواع وبقايا من الحطب ووقود النار ، وأدوات وأوان متعددة للقهوة والشاي والقدوع ، والبخور .
مصاحف ، وقطع من مصاحف طارت أجنحتها ، ونتف من ديوان الخلاوي ولويحان ، والأزهار النادية وكليلة ودمنة وأوراق مهترئة تحتضر بين سطورها أبيات مخطوطة للأشقر وابن صليبيخ والعوني وابن لعبون ، ، تعاقبت عليها الفصول الأربعة ، واحتلت مناطق متفرقة مما كان معدا للجلوس وسط هذا الكم المتراكم من تلك المقتنيات المتناثرة ،، تزاحمت التعليقات والشروح والذكريات على هوامشها وبين سطورها ، وأخفت الكثير من أطراف أبياتها ، ولكنها لم تفقد قيمتها المادية والأدبية حتى مع إصابتها بكافة الأوبئة والندوب ، وكافة أشكال الجفاف والتجفيف التي تتعرض لها الأخشاب ، وكافة مشتقاتها ، عندما تعاقب بالاهمال ، والجفاء ، و تتعاقب عليها غزوات وغارات متتابعة من الفئران والنمل بمختلف ألوانه وأشكاله ، أو عندما تنسينا الاهتمام بها السنين والسنون ومواسم الشح والفقر والحاجة والفاقة ، وأم عميد ،،وفصول السنة ، وماتمده لنا من ألسنة اللهب والحر والقر ، والرياح المثيرة للغبار والأتربة ،والتي تنعدم معها الرؤية بمشيئة الله تعالى !!.
تقاسمت بشكل فوضوي ما تبقى من مساحته ، بقايا ونهايات جدران فقدت ملامحها ، وقطع متناثرة من ماكينة "رستم" ترقد على كتف بئر جافة ،ومهترئة من كل جهاتها ، وتهدد كل من يقترب منها ، أو ما يقع على حدودها بالانهيار والسقوط ،، و"خمسطعش " غريسة ، جفت ، ونشفت ، ومجهولة الأصل والفصل والهوية والمنشأ ، ورحم الله زمان ثمارها وطلعها ، وتمرها .
حير عمي سالم محاط من الجهتين الغربية والشرقية بطابورين متداخلين من أشجار الأثل وأخشاب وجذوع وسعف النخيل اليابس ، ويكمل الصورة أعلاه ، لونا وحركة ، ثلاثون " كمخه " من المتردية والنطيحة من بهيمة الأنعام ،، وعدد لايتجاوز أصابع اليد الواحدة من بنات اللبون والمخاض ،، وحضور غير منقطع لكلبتين (الله يكرمكم ) برأس "الضلعة " يتناوبن النباح والسهر وافتراس من لايدرك الخطر ولا يجيد الركض والهرب من صغار "الصخال " والطليان " ويشكل نباحهن مع صفير الرياح والجبال موسيقى تصويرية تفوق في متعتها تلك التي يتحفنا بها مسلسل بدوي تغلبت تلقائية بيئته على تكلف وعشوائية مخرجه وممثليه .
***
ملايين الصور التي أخذتها ، أو تلك التي علقت بذاكرتي وفي خلايا دماغي خلت من الزوايا والحدود والأشكال والألوان ،، فهي مضحكة ومبكية ، وخالية من الطعم واللون والرائحة ، وهي إلى جانب ذلك مختلفة ومتشابهة ومتغيرة ، ومكرورة ، وليس لها ، كما يبدو لي ظاهريا ، أي علاقة مباشرة بالزوايا التي ينظر منها عمي سالم إلى حدود مزرعته ،، فهي وبالرغم من تعددها لايمكن أن تتفق أو تختلف مع مارتسم منها في ذهن عمي سالم أو في ذهن أحد مرتادي دكته ،أو مجلسه ،أو قهوته الشتوية ،،
كم هائل من الفراغات التي ليست لها، فيما يرى النائم ، قيمة مادية أو معنوية لها أشكال متعددة ، ولم يتفنن لاعمي سالم ولا الذين توارثوها ،قبل أو بعد ، دور في تشكيلها أو بقائها على تلك الصورة ،، ولكن وجودها ضروري ، وحتمي ، و لايمكن تغييره ، وتحميه قوة ضاربة تتمثل في تلك العاطفة الجياشة ، وفي ذلك الحب الفطري الذي يحاط به من أصحابه ،، أو في ذلك الوفاء الذي يتبادله عمي سالم مع كل ذرة من ترابه .
موجات غباره لها طعم نباته ومحاصيله ، والأتربة المتنقلة لها فعل السحر في أرنبة أنف عمي سالم ، ولطينه وبقية مكوناته نكهة خاصة يتبادلها عمي سالم مع مرتادي دكته كما يتبادلون الخولانية والشاي رخانة ورغفان أم دريميحة وصغيرتها فضه !!
حتى عندما قمنا بتلك الرحلة البرية إلى " نقبين " وقضينا فيها بقية أسبوع صيفي كان عمي سالم ورفاقه يحنون كالإبل المسروقة إلى تلك المساحات المغبرة من "المنزلة " ويعتقد أنه في غربة بات يلعنها بقية أيام الرحلة ،، وكاد في يومها الأخير أن يضرب عن الطعام والماء ، وتبدلت لهجته ، ونبرات صوته ، وبدت خطوط الحزن والتبرم ترتسم على محياه وصدغيه ، وقدحت عيناه بالشرر ، وغابت عنه تلك الدعابة التي يتعامل بها في أول ليال وأيام الرحلة مع ضيوفها وأعضائها .
اقتربت منه مجتهدا لأخفف عنه بعضا من مأساة تلك الغربة الإرادية بعيدا عن المنزلة ،، ولكنه سرعان ماستجمع قواه ، وتناسى كل الحدود التي يقف في العادة أمامها ، وشن علي حربا شعواء عندما اعتقد أنني أقلل من أهميتها ، وأنني ، فيما كان يظن ، استبدلتها واستعظت عنها بغيرها ، أو أنني أنظر لها وإليها بفوقية واستعلاء !!
لو لم تكن تلك الفراغات ، فيما أعتقد ، موجودة لضاق صدره ، وتبرم من جذوع وأفرع النخل والأثل الذي يحجب عنه الرؤية والجبال والشمس والسمر مع القمر. ويفتح في ذاكرته مساحة من الخيال تعينه وتزوده بما يحتاج إليه من الصور التي يرسمها سواء عندما يجلس بمفرده قبالتها ، أو عندما يجمل بها أحاديثه اليومية في دكته ومجلسه الصيفي .
خلف برميل "القاز" وفي زاوية مدخله القريب من الباب "الطالعي" ورشة صغيرة لسيكل عمي سالم "الست وعشرين " يتوسطه موقف السيكل الشهير ،،وعدد وبقايا زيوت متناثرة ،، وسحارة حديد حوت كل مسمار ليس له صامولة ، وكل صامولة لايوجد لها مسمار .
تتناثر في المساحات الفارغة من "سويق القهوة " أشكال متعددة ، ومختلفة المقاسات من الفخاخ والعصي والفؤوس ، والمرس ، والمحافر ، والمناسيف ،،، وبقية فرش ، وخصاصيف ، وزبلان ، وقفاف ، وسلال ، صنعت من سعف النخل ، ، وفوانيس ، وسرج معلقة ، وغير معلقة ، وبعضا من بقايا أسلحة وعددا وأدوات يدوية للزراعة والحفر ، والسفر القريب ، ورحلات البرّ والصيد والقنص ، ،، ، وأنواع وبقايا من الحطب ووقود النار ، وأدوات وأوان متعددة للقهوة والشاي والقدوع ، والبخور .
مصاحف ، وقطع من مصاحف طارت أجنحتها ، ونتف من ديوان الخلاوي ولويحان ، والأزهار النادية وكليلة ودمنة وأوراق مهترئة تحتضر بين سطورها أبيات مخطوطة للأشقر وابن صليبيخ والعوني وابن لعبون ، ، تعاقبت عليها الفصول الأربعة ، واحتلت مناطق متفرقة مما كان معدا للجلوس وسط هذا الكم المتراكم من تلك المقتنيات المتناثرة ،، تزاحمت التعليقات والشروح والذكريات على هوامشها وبين سطورها ، وأخفت الكثير من أطراف أبياتها ، ولكنها لم تفقد قيمتها المادية والأدبية حتى مع إصابتها بكافة الأوبئة والندوب ، وكافة أشكال الجفاف والتجفيف التي تتعرض لها الأخشاب ، وكافة مشتقاتها ، عندما تعاقب بالاهمال ، والجفاء ، و تتعاقب عليها غزوات وغارات متتابعة من الفئران والنمل بمختلف ألوانه وأشكاله ، أو عندما تنسينا الاهتمام بها السنين والسنون ومواسم الشح والفقر والحاجة والفاقة ، وأم عميد ،،وفصول السنة ، وماتمده لنا من ألسنة اللهب والحر والقر ، والرياح المثيرة للغبار والأتربة ،والتي تنعدم معها الرؤية بمشيئة الله تعالى !!.
تقاسمت بشكل فوضوي ما تبقى من مساحته ، بقايا ونهايات جدران فقدت ملامحها ، وقطع متناثرة من ماكينة "رستم" ترقد على كتف بئر جافة ،ومهترئة من كل جهاتها ، وتهدد كل من يقترب منها ، أو ما يقع على حدودها بالانهيار والسقوط ،، و"خمسطعش " غريسة ، جفت ، ونشفت ، ومجهولة الأصل والفصل والهوية والمنشأ ، ورحم الله زمان ثمارها وطلعها ، وتمرها .
حير عمي سالم محاط من الجهتين الغربية والشرقية بطابورين متداخلين من أشجار الأثل وأخشاب وجذوع وسعف النخيل اليابس ، ويكمل الصورة أعلاه ، لونا وحركة ، ثلاثون " كمخه " من المتردية والنطيحة من بهيمة الأنعام ،، وعدد لايتجاوز أصابع اليد الواحدة من بنات اللبون والمخاض ،، وحضور غير منقطع لكلبتين (الله يكرمكم ) برأس "الضلعة " يتناوبن النباح والسهر وافتراس من لايدرك الخطر ولا يجيد الركض والهرب من صغار "الصخال " والطليان " ويشكل نباحهن مع صفير الرياح والجبال موسيقى تصويرية تفوق في متعتها تلك التي يتحفنا بها مسلسل بدوي تغلبت تلقائية بيئته على تكلف وعشوائية مخرجه وممثليه .
***
ملايين الصور التي أخذتها ، أو تلك التي علقت بذاكرتي وفي خلايا دماغي خلت من الزوايا والحدود والأشكال والألوان ،، فهي مضحكة ومبكية ، وخالية من الطعم واللون والرائحة ، وهي إلى جانب ذلك مختلفة ومتشابهة ومتغيرة ، ومكرورة ، وليس لها ، كما يبدو لي ظاهريا ، أي علاقة مباشرة بالزوايا التي ينظر منها عمي سالم إلى حدود مزرعته ،، فهي وبالرغم من تعددها لايمكن أن تتفق أو تختلف مع مارتسم منها في ذهن عمي سالم أو في ذهن أحد مرتادي دكته ،أو مجلسه ،أو قهوته الشتوية ،،
كم هائل من الفراغات التي ليست لها، فيما يرى النائم ، قيمة مادية أو معنوية لها أشكال متعددة ، ولم يتفنن لاعمي سالم ولا الذين توارثوها ،قبل أو بعد ، دور في تشكيلها أو بقائها على تلك الصورة ،، ولكن وجودها ضروري ، وحتمي ، و لايمكن تغييره ، وتحميه قوة ضاربة تتمثل في تلك العاطفة الجياشة ، وفي ذلك الحب الفطري الذي يحاط به من أصحابه ،، أو في ذلك الوفاء الذي يتبادله عمي سالم مع كل ذرة من ترابه .
موجات غباره لها طعم نباته ومحاصيله ، والأتربة المتنقلة لها فعل السحر في أرنبة أنف عمي سالم ، ولطينه وبقية مكوناته نكهة خاصة يتبادلها عمي سالم مع مرتادي دكته كما يتبادلون الخولانية والشاي رخانة ورغفان أم دريميحة وصغيرتها فضه !!
حتى عندما قمنا بتلك الرحلة البرية إلى " نقبين " وقضينا فيها بقية أسبوع صيفي كان عمي سالم ورفاقه يحنون كالإبل المسروقة إلى تلك المساحات المغبرة من "المنزلة " ويعتقد أنه في غربة بات يلعنها بقية أيام الرحلة ،، وكاد في يومها الأخير أن يضرب عن الطعام والماء ، وتبدلت لهجته ، ونبرات صوته ، وبدت خطوط الحزن والتبرم ترتسم على محياه وصدغيه ، وقدحت عيناه بالشرر ، وغابت عنه تلك الدعابة التي يتعامل بها في أول ليال وأيام الرحلة مع ضيوفها وأعضائها .
اقتربت منه مجتهدا لأخفف عنه بعضا من مأساة تلك الغربة الإرادية بعيدا عن المنزلة ،، ولكنه سرعان ماستجمع قواه ، وتناسى كل الحدود التي يقف في العادة أمامها ، وشن علي حربا شعواء عندما اعتقد أنني أقلل من أهميتها ، وأنني ، فيما كان يظن ، استبدلتها واستعظت عنها بغيرها ، أو أنني أنظر لها وإليها بفوقية واستعلاء !!
لو لم تكن تلك الفراغات ، فيما أعتقد ، موجودة لضاق صدره ، وتبرم من جذوع وأفرع النخل والأثل الذي يحجب عنه الرؤية والجبال والشمس والسمر مع القمر. ويفتح في ذاكرته مساحة من الخيال تعينه وتزوده بما يحتاج إليه من الصور التي يرسمها سواء عندما يجلس بمفرده قبالتها ، أو عندما يجمل بها أحاديثه اليومية في دكته ومجلسه الصيفي .