وتشرق
2009-12-21, 09:57 PM
أحبتي أعضاء وزوار وعشاق ( البراري )
بدأ محبكم ( أبو علي ) بسرد حكايات من ذاكرة الطين في منتديات أخرى ، ولقد وصلنا إلى الحكاية ( 9 ) ؛ والتي أشرف بوضعها أمام ناظريكم ، سائلا المولى أن تحوز على رضاكم بعد رضا الله سبحانه وتعالى .
البرد والربيع والكشتات قبل 40 عاما :
عندما يحل الشتاء تبدأ معاناتنا مع البرد وأعراضه الظاهرة والباطنة وفي مقدمتها ( المشق ) والذي كنا نعاني منه الأمرين ، ولربما تجرحت جلودنا منه ، ولم يكن أمامنا حلٌّ سوى ( الوازلين ) ولعله لا يجدي كثيرًا إذا كانت الحالة متقدمة ...
وكانت وسيلة التدفئة الوحيدة إشعال النار ؛ ولذا كان علينا جلب الحطب ، وغالبا يكون أغصان الأثل ويسمى شكير ( شتسير ) وخشبها مع شيء من الصنوخ والجذامير ، وعندما نخرج للبر كانت جدتي ( رقية ) رحمها الله تخفي حزمة من الغضا تحت أغراض الكشتة.
ومما ألفناه في تلك الحقب ما يسمى ( القحفية ) ، وهي غطاء للرأس تخاط من بقايا الأقمشة ، ويتدلى من جانبيها حبلان يربطان أسفل الحنك ، ومن المعتاد لبس ثوب على آخر ، ولبس الغترة أو الشماغ على طريقة يسمونها ( غلالة ) فكانوا يقولون لنا : تغللْ ونمْ ... وعندما نستيقظ فجرًا نتوضأ من ( السخـَّانة ) وهي حنفية معدنية أو قدر كبير يوضع على كولة ( تسولة ) وتظل مشتعلة طوال الليل .
ومن المناظر المألوفة رؤية الرجال فوق الأسطح للقيام بعملية ( تنعيل ) الأسطح ، ومعناها وضع طبقة طينية جديدة ... ثم بـُدأ باستعمال ( الجص ) أو الاسمنت لحماية الأسطح من تسرب المياه .
أمـَّا عندما ينزل المطر فإن أهالينا يعلنون حالة الطوارئ من الدرجة ( البرتقالية ) تحسبا لتسرب الماء من سقوف البيوت ، فقد ياتسف ( ياكف ) السقف أو ( يخر ) رغم كل الإجراءات الاحترازية ، وهنا يصبح لزاما على جميع أفراد العائلة المشاركة في عمليات عاجلة لسد الشقوق وتسهيل جريان الماء إلى ( المثعب – المرزم ) ، ويتم ذلك تحت وابل المطر المنهمر ، وتحت السقوف يتم وضع الأواني لاستقبال نقط المياه المتساقطة ، وكثيرًا ما كنا ننام تحت صوتها الرنان ( طق .. طق .. طق ) ...
ورغم كل ذلك لا ينسى الفرح أنْ يزورنا ، ولفرحنا بالمطر دواع كثيرة في مقدمتها ذلك الهم الجاثم على صدورنا ألا وهو المدرسة ... فكانت سعادتنا لا توصف عندما يُطلب منا الانصراف من المدرسة خوفا على سلامتنا ، فمدرسة الطين غير آمنة ، وبدأت أسقفها تصب من كل ناحية ، وبلـَّل ( الواكف ) طاولاتنا التي تتسع الواحدة منها لثلاثة أو أربعة ... وترك آثاره على الجدران المجصَّصة ، فننطلق إلى حيث الفرح الطفولي الموعود ، فنرمي بحقائبنا المدرسية البالية ، ثم نعتمر مظلاتنا الواقية من المطر ، وهي ليست سوى خيشة قمح أو أرز ، نثني إحدى طرفيها على شكل مثلث ، ثم نضعها على رؤوسنا ، فيُغْرق المطرُ الخيشة ؛ لتغرقَ رؤوسُنا تحتها ( وعلى بالنا متظللين ...!! ) ونتوجه إلى ( التلعة ) ويبدو لي أنه شعيب ينحدر من السلسة والقاع عبر الملاح إلى الطريق الواقع بين مقابر الطعيميات فنخوض في الماء جيئة وذهابا ، ولربما وصل الماء إلى ركبنا ، والأرض طينية موحلة ... ومع ذلك لم نكن نعاني كثيرًا من أمراض الشتاء ...
ومن مظاهر الفرح إشعال نيران التدفئة في البيوت والبرح القريبة ، حيث كنا نجمع بعض الألواح والأخشاب ، ولا يـُسمح لأحد بالاستمتاع بالتدفئة إلا إذا أحضر ( خشاره ) أي شيئا من الحطب يضعه على النار ... وفي سوق المسوكف والقاع والحيالة والمجلس اعتاد أصحاب المتاجر إشعال النار أمام متاجرهم ؛ ليتدفؤوا هم والعابرون ولكن دون أن يطالبوا بـ ( الخشار ) .
وعندما يشتد البرد نكون على موعد مع أكلات الشتاء ومنها ( الحنيني ) ، حيث امتاز بعض جيراننا بإتقانها ، ومن أبرزهم عائلة علي الفرج - رحمه الله - وعائلة صالح النفيسة ، وكانوا يعدون كميات كبيرة ويقومون بإهدائها لجيرانهم ، ومما يجعل طعم الحنيني لذيذا لايقاوم وجود ( المحزر ) أو ( المحيزرة ) وهي عبارة عن شحمة توضع في ( الكرشة ) ثم تعلق في السقف بعد إحكام غلقها ، وتترك حتى تتعفن ، وتزداد جودتها بازدياد رائحة تعفنها ، ومن أشهر معديها وبائعيها في ذلك الوقت : القريشي ، والهطلاني ، والعطية ، الهقاص - رحم الله حيهم وميتهم - ولا تزال المحيزرة متواجدة حتى الآن - وإن كان بشكل أقل - ... ومن الأكلات ( الدويفة ) وهي من ألذ الأكلات التي تبث التدفئة خاصة إذا تواجد فيها ( القفر ) و ( الجبا )
وأمَّا قمة الفرح فيكمن في ( الكشتات ) والتي ستكون محور الحكاية القادمة – إن شاء الله –
وتشرق ..... ( أبوعلي ) ، عنيزة ، الإثنين4/1/1431
بدأ محبكم ( أبو علي ) بسرد حكايات من ذاكرة الطين في منتديات أخرى ، ولقد وصلنا إلى الحكاية ( 9 ) ؛ والتي أشرف بوضعها أمام ناظريكم ، سائلا المولى أن تحوز على رضاكم بعد رضا الله سبحانه وتعالى .
البرد والربيع والكشتات قبل 40 عاما :
عندما يحل الشتاء تبدأ معاناتنا مع البرد وأعراضه الظاهرة والباطنة وفي مقدمتها ( المشق ) والذي كنا نعاني منه الأمرين ، ولربما تجرحت جلودنا منه ، ولم يكن أمامنا حلٌّ سوى ( الوازلين ) ولعله لا يجدي كثيرًا إذا كانت الحالة متقدمة ...
وكانت وسيلة التدفئة الوحيدة إشعال النار ؛ ولذا كان علينا جلب الحطب ، وغالبا يكون أغصان الأثل ويسمى شكير ( شتسير ) وخشبها مع شيء من الصنوخ والجذامير ، وعندما نخرج للبر كانت جدتي ( رقية ) رحمها الله تخفي حزمة من الغضا تحت أغراض الكشتة.
ومما ألفناه في تلك الحقب ما يسمى ( القحفية ) ، وهي غطاء للرأس تخاط من بقايا الأقمشة ، ويتدلى من جانبيها حبلان يربطان أسفل الحنك ، ومن المعتاد لبس ثوب على آخر ، ولبس الغترة أو الشماغ على طريقة يسمونها ( غلالة ) فكانوا يقولون لنا : تغللْ ونمْ ... وعندما نستيقظ فجرًا نتوضأ من ( السخـَّانة ) وهي حنفية معدنية أو قدر كبير يوضع على كولة ( تسولة ) وتظل مشتعلة طوال الليل .
ومن المناظر المألوفة رؤية الرجال فوق الأسطح للقيام بعملية ( تنعيل ) الأسطح ، ومعناها وضع طبقة طينية جديدة ... ثم بـُدأ باستعمال ( الجص ) أو الاسمنت لحماية الأسطح من تسرب المياه .
أمـَّا عندما ينزل المطر فإن أهالينا يعلنون حالة الطوارئ من الدرجة ( البرتقالية ) تحسبا لتسرب الماء من سقوف البيوت ، فقد ياتسف ( ياكف ) السقف أو ( يخر ) رغم كل الإجراءات الاحترازية ، وهنا يصبح لزاما على جميع أفراد العائلة المشاركة في عمليات عاجلة لسد الشقوق وتسهيل جريان الماء إلى ( المثعب – المرزم ) ، ويتم ذلك تحت وابل المطر المنهمر ، وتحت السقوف يتم وضع الأواني لاستقبال نقط المياه المتساقطة ، وكثيرًا ما كنا ننام تحت صوتها الرنان ( طق .. طق .. طق ) ...
ورغم كل ذلك لا ينسى الفرح أنْ يزورنا ، ولفرحنا بالمطر دواع كثيرة في مقدمتها ذلك الهم الجاثم على صدورنا ألا وهو المدرسة ... فكانت سعادتنا لا توصف عندما يُطلب منا الانصراف من المدرسة خوفا على سلامتنا ، فمدرسة الطين غير آمنة ، وبدأت أسقفها تصب من كل ناحية ، وبلـَّل ( الواكف ) طاولاتنا التي تتسع الواحدة منها لثلاثة أو أربعة ... وترك آثاره على الجدران المجصَّصة ، فننطلق إلى حيث الفرح الطفولي الموعود ، فنرمي بحقائبنا المدرسية البالية ، ثم نعتمر مظلاتنا الواقية من المطر ، وهي ليست سوى خيشة قمح أو أرز ، نثني إحدى طرفيها على شكل مثلث ، ثم نضعها على رؤوسنا ، فيُغْرق المطرُ الخيشة ؛ لتغرقَ رؤوسُنا تحتها ( وعلى بالنا متظللين ...!! ) ونتوجه إلى ( التلعة ) ويبدو لي أنه شعيب ينحدر من السلسة والقاع عبر الملاح إلى الطريق الواقع بين مقابر الطعيميات فنخوض في الماء جيئة وذهابا ، ولربما وصل الماء إلى ركبنا ، والأرض طينية موحلة ... ومع ذلك لم نكن نعاني كثيرًا من أمراض الشتاء ...
ومن مظاهر الفرح إشعال نيران التدفئة في البيوت والبرح القريبة ، حيث كنا نجمع بعض الألواح والأخشاب ، ولا يـُسمح لأحد بالاستمتاع بالتدفئة إلا إذا أحضر ( خشاره ) أي شيئا من الحطب يضعه على النار ... وفي سوق المسوكف والقاع والحيالة والمجلس اعتاد أصحاب المتاجر إشعال النار أمام متاجرهم ؛ ليتدفؤوا هم والعابرون ولكن دون أن يطالبوا بـ ( الخشار ) .
وعندما يشتد البرد نكون على موعد مع أكلات الشتاء ومنها ( الحنيني ) ، حيث امتاز بعض جيراننا بإتقانها ، ومن أبرزهم عائلة علي الفرج - رحمه الله - وعائلة صالح النفيسة ، وكانوا يعدون كميات كبيرة ويقومون بإهدائها لجيرانهم ، ومما يجعل طعم الحنيني لذيذا لايقاوم وجود ( المحزر ) أو ( المحيزرة ) وهي عبارة عن شحمة توضع في ( الكرشة ) ثم تعلق في السقف بعد إحكام غلقها ، وتترك حتى تتعفن ، وتزداد جودتها بازدياد رائحة تعفنها ، ومن أشهر معديها وبائعيها في ذلك الوقت : القريشي ، والهطلاني ، والعطية ، الهقاص - رحم الله حيهم وميتهم - ولا تزال المحيزرة متواجدة حتى الآن - وإن كان بشكل أقل - ... ومن الأكلات ( الدويفة ) وهي من ألذ الأكلات التي تبث التدفئة خاصة إذا تواجد فيها ( القفر ) و ( الجبا )
وأمَّا قمة الفرح فيكمن في ( الكشتات ) والتي ستكون محور الحكاية القادمة – إن شاء الله –
وتشرق ..... ( أبوعلي ) ، عنيزة ، الإثنين4/1/1431