الشبيعان
2009-09-15, 02:21 AM
البيئة والإنسان
جريدة الرياض
يقول الآثاريون إن للبيئة أثراً كبيراً في الإنسان، وأظن أن الجغرافيين يوافقون على هذا القول، ويؤيدهم علماء البيئة وعلماء الاجتماع والأطباء النفسيون، فالإنسان يتأثر بما يحيط به وما يدور حوله من أحداث، فيخرج بشخصية هي نتاج المؤثرات الموجودة في بيئته والقريبة منه. وربما أن نتاج تلك المؤثرات تعتبر أمراضاً نفسية بالنسبة للأطباء النفسيين، وتعتبر تأثراً بالنسبة إلى الآثاريين وغيرهم. ونضرب مثلاً على ما ذكرنا بالشعراء الجاهليين فعند التمعن في حياة أغلبهم، نجد أنهم متأثرون بما حولهم إلى درجة تتجاوز حدود التأثر لتسقط في دائرة المرض النفسي، فهل يعني هذا أنهم مرضى نفسياً؟ وبالتالي هل يجوز أن نأخذ حقائق تاريخية من أشعارهم. فعلى سبيل المثال تأثر عنترة بن شداد العبسي بوضعه الاجتماعي تأثراً بالغاً، فهل يمكن أن نعدُ تأثره مرضاً نفسياً أثَّر في مصداقية شعره؟
والمؤكد أن للبيئة دوراً في صناعة شخصية المرء، فبيئة الحروب قد تصنع أبطالاً وشعراء حربيين يغلب على شعرهم الطابع القتالي. وبيئة الحاجة قد تصنع إنسانا ينطبع بنمطية حاجتها، فمقتل كليب وائل على سبيل المثال صنع من الزير سالم بطلاً، وفي الوقت ذاته صنع من جساس بن مرة زعيماً لقومه، وهو من قبل ذلك لم يكن. وهكذا فالظروف قد تصنع من شخصية الإنسان شخصية مناقضة لما هي عليه أصلاً. ونجد هذا الأمر واضحاً في شخصية عنترة بن شداد العبسي أحد فرسان الجاهلية وشعرائها، فعندما نقرأ شعر هذا الشاعر الفارس نجد متعة لانسيابه وتوالي أحداثه وسهولة حفظه وكثرة التمثيل والحكم فيه مما يشعر القارئ بأنه بحاجة إليه لتلبيته حاجات في نفسه.
ومع وجود الخصائص الإيجابية التي ذكرت نجد أن شعره يتسم بالتعالي والتفاخر الذي قد يتجاوز حدود العقل إلى نطاق الخيال غير القابل للتصديق. فمن ذا الذي يستطيع أن يصدق أن عنترة يسير فوق الثريا؟ ومن ذا الذي يستطيع أن يصدق أن عنترة يهزم الجيش لوحده؟ ومن ذا الذي يستطيع أن يصدق أن عنترة يواجه أسداً وعنترة نفسه مقيد بالسلاسل الحديدية؟ فربما مدح الشاعر غيره فأفحش في المدح من باب التقرب أو المجاملة، ولكن فحش الشاعر في مدح نفسه كما فعل عنترة لم يكن إلا بسبب الظروف التي جعلت منه إنساناً متعالياً في مدح ذاته وهو شيء يناقض تماماً صفاته الأخرى التي يعترف بها لنفسه وهو يعترف بها له الآخرون؛ كالتعفف، والبعد عن مواطن الردى، والكرم، وحفظ اللسان، والبعد عن أذى الآخرين، وهي جميعاً صفات الرجل كريم الأصل عزيز الجانب، وتتضح بعض تلك الصفات في قوله عن نفسه:
أبصرت ثم هويت ثم كتمت ما
ألقى ولم يعلم بذاك مناجي
فوصلت ثم قدرت ثم عففت من
شرف تناهى بي إلى الانضاج
وتناقض تلك الصفات صفة الافتخار والتعالي، ولكنها الظروف التي طبعت شعر هذا الإنسان بهذا الطابع فصراعه مع أبيه ليلحقه بنسبه خلق منه شخصية همها الاعتداد بمكوناتها دون النظر في نسبه، فهو يقول إذا افتخر الناس بأنسابهم فإن عمي هو سيفي وخالي هو رمحي. ويقول أيضاً في مكان آخر اذا انتسب القوم فجواده هو نسبه وحسامه والسنان هما أباه وأمه:
جوادي نسبتي، وأبي وأمي
حسامي، والسنان، إذا انتسبنا
ويستمر في القصيدة نفسها مبيناً تحمله وصبره وتفوقه على غيره ولكن بصورة يشوبها الخيال، وهذا بين من قوله:
عركتني نوائب الأيام حتى
رأيت كثيرها عندي قليلا
ويكثر في شعر عنترة الافتخار إلى درجة المغالاة في ذلك وتجاوز حدود القبول العقلي ليقع في المرض النفسي، ومن هذا الصنف قوله:
بل لو صدمت بهمتي جبلي حرى
قسماً وحق أبي قبيس تزلزلا
وفي موضع آخر تجده مفاخراً في قوله:
إن كنت أنت قطعت براً مقفراً
وسلكته تحت الدُجى في جحفل
فأنا سريت مع الثريا مفرداً
لا مؤنس لي غير حدِّ المنصل
ويقول في موضع آخر:
ولولا صارمي وسنان رمحي
لما رفعت بنو عبس عمادا
وفي قوله:
إذا ما رآني الغرب ذل لهيبتي
ومازال باع الشرق عني يقصرا
وهكذا نجد أن الظروف تصوغ الإنسان ولكنها في صياغتها له قد تتجاوز به حدود الواقع، وبالنسبة إلى عنترة نجد أن الظروف أثرت في شخصيته حتى أضعفت مصداقية شعره في كونه مصدراً تاريخياً. فمن مغالاة عنترة في افتخاره بنفسه يمكن أن نعتقد أنه مصاب بمرض نفسي نتيجة للشعور بالتفرقة بينه وبين أبناء قبيلته ذوي النسب الصريح. فالتشكيك في ظاهرة من ظواهر شعر شاعر، كالتشكيك بالتعالي عند عنترة، يقود إلى التشكيك بالبقية. ومع ذلك يبقى الشعر أحد مصادر التاريخ العربي القديم التي تحتاج إلى تحوط عند الأخذ بها.
جريدة الرياض
يقول الآثاريون إن للبيئة أثراً كبيراً في الإنسان، وأظن أن الجغرافيين يوافقون على هذا القول، ويؤيدهم علماء البيئة وعلماء الاجتماع والأطباء النفسيون، فالإنسان يتأثر بما يحيط به وما يدور حوله من أحداث، فيخرج بشخصية هي نتاج المؤثرات الموجودة في بيئته والقريبة منه. وربما أن نتاج تلك المؤثرات تعتبر أمراضاً نفسية بالنسبة للأطباء النفسيين، وتعتبر تأثراً بالنسبة إلى الآثاريين وغيرهم. ونضرب مثلاً على ما ذكرنا بالشعراء الجاهليين فعند التمعن في حياة أغلبهم، نجد أنهم متأثرون بما حولهم إلى درجة تتجاوز حدود التأثر لتسقط في دائرة المرض النفسي، فهل يعني هذا أنهم مرضى نفسياً؟ وبالتالي هل يجوز أن نأخذ حقائق تاريخية من أشعارهم. فعلى سبيل المثال تأثر عنترة بن شداد العبسي بوضعه الاجتماعي تأثراً بالغاً، فهل يمكن أن نعدُ تأثره مرضاً نفسياً أثَّر في مصداقية شعره؟
والمؤكد أن للبيئة دوراً في صناعة شخصية المرء، فبيئة الحروب قد تصنع أبطالاً وشعراء حربيين يغلب على شعرهم الطابع القتالي. وبيئة الحاجة قد تصنع إنسانا ينطبع بنمطية حاجتها، فمقتل كليب وائل على سبيل المثال صنع من الزير سالم بطلاً، وفي الوقت ذاته صنع من جساس بن مرة زعيماً لقومه، وهو من قبل ذلك لم يكن. وهكذا فالظروف قد تصنع من شخصية الإنسان شخصية مناقضة لما هي عليه أصلاً. ونجد هذا الأمر واضحاً في شخصية عنترة بن شداد العبسي أحد فرسان الجاهلية وشعرائها، فعندما نقرأ شعر هذا الشاعر الفارس نجد متعة لانسيابه وتوالي أحداثه وسهولة حفظه وكثرة التمثيل والحكم فيه مما يشعر القارئ بأنه بحاجة إليه لتلبيته حاجات في نفسه.
ومع وجود الخصائص الإيجابية التي ذكرت نجد أن شعره يتسم بالتعالي والتفاخر الذي قد يتجاوز حدود العقل إلى نطاق الخيال غير القابل للتصديق. فمن ذا الذي يستطيع أن يصدق أن عنترة يسير فوق الثريا؟ ومن ذا الذي يستطيع أن يصدق أن عنترة يهزم الجيش لوحده؟ ومن ذا الذي يستطيع أن يصدق أن عنترة يواجه أسداً وعنترة نفسه مقيد بالسلاسل الحديدية؟ فربما مدح الشاعر غيره فأفحش في المدح من باب التقرب أو المجاملة، ولكن فحش الشاعر في مدح نفسه كما فعل عنترة لم يكن إلا بسبب الظروف التي جعلت منه إنساناً متعالياً في مدح ذاته وهو شيء يناقض تماماً صفاته الأخرى التي يعترف بها لنفسه وهو يعترف بها له الآخرون؛ كالتعفف، والبعد عن مواطن الردى، والكرم، وحفظ اللسان، والبعد عن أذى الآخرين، وهي جميعاً صفات الرجل كريم الأصل عزيز الجانب، وتتضح بعض تلك الصفات في قوله عن نفسه:
أبصرت ثم هويت ثم كتمت ما
ألقى ولم يعلم بذاك مناجي
فوصلت ثم قدرت ثم عففت من
شرف تناهى بي إلى الانضاج
وتناقض تلك الصفات صفة الافتخار والتعالي، ولكنها الظروف التي طبعت شعر هذا الإنسان بهذا الطابع فصراعه مع أبيه ليلحقه بنسبه خلق منه شخصية همها الاعتداد بمكوناتها دون النظر في نسبه، فهو يقول إذا افتخر الناس بأنسابهم فإن عمي هو سيفي وخالي هو رمحي. ويقول أيضاً في مكان آخر اذا انتسب القوم فجواده هو نسبه وحسامه والسنان هما أباه وأمه:
جوادي نسبتي، وأبي وأمي
حسامي، والسنان، إذا انتسبنا
ويستمر في القصيدة نفسها مبيناً تحمله وصبره وتفوقه على غيره ولكن بصورة يشوبها الخيال، وهذا بين من قوله:
عركتني نوائب الأيام حتى
رأيت كثيرها عندي قليلا
ويكثر في شعر عنترة الافتخار إلى درجة المغالاة في ذلك وتجاوز حدود القبول العقلي ليقع في المرض النفسي، ومن هذا الصنف قوله:
بل لو صدمت بهمتي جبلي حرى
قسماً وحق أبي قبيس تزلزلا
وفي موضع آخر تجده مفاخراً في قوله:
إن كنت أنت قطعت براً مقفراً
وسلكته تحت الدُجى في جحفل
فأنا سريت مع الثريا مفرداً
لا مؤنس لي غير حدِّ المنصل
ويقول في موضع آخر:
ولولا صارمي وسنان رمحي
لما رفعت بنو عبس عمادا
وفي قوله:
إذا ما رآني الغرب ذل لهيبتي
ومازال باع الشرق عني يقصرا
وهكذا نجد أن الظروف تصوغ الإنسان ولكنها في صياغتها له قد تتجاوز به حدود الواقع، وبالنسبة إلى عنترة نجد أن الظروف أثرت في شخصيته حتى أضعفت مصداقية شعره في كونه مصدراً تاريخياً. فمن مغالاة عنترة في افتخاره بنفسه يمكن أن نعتقد أنه مصاب بمرض نفسي نتيجة للشعور بالتفرقة بينه وبين أبناء قبيلته ذوي النسب الصريح. فالتشكيك في ظاهرة من ظواهر شعر شاعر، كالتشكيك بالتعالي عند عنترة، يقود إلى التشكيك بالبقية. ومع ذلك يبقى الشعر أحد مصادر التاريخ العربي القديم التي تحتاج إلى تحوط عند الأخذ بها.