أحمد الحربي
2009-04-15, 11:02 PM
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيقول الإمام الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى-:
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مر على صبرة من طعام، فأدخله يده فيها، فنالت أصابعه بللا فقال: ما هذا يا صاحب الطعام؟ قال: أصابته السماء يا رسول الله. قال: أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس، من غش فليس مني رواه مسلم .
--------------------------------------------------------------------------------
أبو هريرة -رضي الله عنه- صحابي مشهور، واختلف في اسمه كثيرا والمشهور أنه عبد الرحمن بن صخر، أو المشهور فيه قولان: عبد الرحمن بن صخر وعبد الله بن عمرو، وروى أحاديث كثيرة -رضي الله عنه-، وهو من علماء الصحابة ومن فقهائهم، وله فتاوى كثيرة -رضي الله عنه-.
هذا الخبر ذكره المصنف -رحمه الله- في باب البيوع من جهة أن الغش في المبيعات في الأصل أنه لا يجوز، لكن من وقع منه غش في المبيع فإن المغشوش يكون بالخيار، وفيه أنه مر على صبرة من طعام، الصبرة هي الكومة أو الطعام المجتمع المكوم صب بعضه على بعض، فأدخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يده في الطعام فنالت أصابعه بللا، فقال: ما هذا يا صاحب الطعام: قال: أصابته السماء. يعني المطر، فأنكر عليه -عليه الصلاة والسلام- من جهة أنه لا يرى، وأمر بإبرازه وإظهاره حتى يعلمه الناس، قال: من غش فليس مني وفي اللفظ الآخر: من غشنا فليس منا ومن كان عنده شيء من الطعام فالواجب عليه أراد أن يبيع شيئا مكوما أو مجموعا فالواجب أن يكون واضحا ظاهرا، وإذا كان فيه فساد فالواجب أن يظهره، وأن يجعله فوق الطعام كما أمر -عليه الصلاة والسلام- أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس.
وهذا يشمل كل ما يكون مستورا سواء كان من طعام أو يكون مثلا يعني سواء كان مصبورا أو يكون مثلا يباع في كراتين أو في أخشاب مثل ما تباع من أنواع الخضار والفواكه، وكذلك أنواع الثياب إذا باعها مجموعة، وكذلك إذا باع السيارة، أو باع جهازا من الأجهزة وكان فيه عيب، فالواجب بيانه لا ++ حديث عقبة: لا يحل لمسلم أن يبيع بيعا وفيه عيب إلا بينه له يجب عليه أن يبين هذا العيب وأن يذكره؛ لأن من لم يبين العيب فقد غش، ولأن العيب ينقص السلعة؛ فلهذا وجب عليه أن يبين إما بيانا منصوصا أو بيانا يعني بيانا إما أن يكون البيان مخصوصا منصوصا؛ أو أن يكون بيانا عاما مثل أن يقول، وهذا مما اختلف فيه هل يجب التنصيص على العيب؟ وهل تجزئ البراءة من العيب؟، اختلف العلماء في هذا إذا كان الشيء المبيع فيه عيب .
والأظهر أن يقال إن كان العيب معلوما للبائع كونه يعلم أن فيه عيبا، في سيارة فيها عطل في داخلها أو خراب في داخلها، أو هذا الجهاز المبيع فيه خراب فإن كان البائع يعلمه فالواجب أن يبينه، وإن كان لا يعلمه وسأله البائع عن عيوبها، فلا يلزمه مثلا أن يعني لا يلزمه ذلك من جهة عدم العلم وأن يتفحصها تماما، المقصود أنه إن كان يجهل فلا بأس في ذلك، ويجوز على هذا أن يبيعها بالبراءة من العيب، وهذه مما اختلف العلماء فيه في جواز البيع بالبراءة من العيب يقول: أبيعك هذه السيارة وأنا بريء من كل عيب تماما، ولا يلحقني شيء ولو وجد عيب بعد ذلك، فهل يلحقه؟ نقول: البراءة من العيب إن كان يعلم فالصحيح أنه لا يجوز؛ لأنه إذا كان يعلم فالواجب عليه البيان؛ لأنه ثبت في الأخبار أنه -عليه الصلاة والسلام- حديث عقبة وغيره قال: إلا بينه له وفي حديث أبي هريرة: من غش فليس مني .
وهذا يكون مع العلم بالعيب، وإن كان لا يعلم بالعيب وباعه بالبراءة منه مع عدم العلم فلا بأس بذلك، وإذا وجد عيبا بعد ذلك فلا رجوع له ولا خيار؛ لأنهما يستويان في العلم، فإذا استويا في العلم فلا عتب على البائع، وعلى هذا يعلم أنه يجب على من يبيع في الأطعمة ويعلم عيبا في هذا الطعام أن يبينه، ويعلم أيضا أن العيب قد يكون عيب النوع لا عيب ولا أن يكون العيب خرابا، يعني لا يشترط أن يكون العيب فسادا أو خرابا، بل يكون العيب عيب نوع ـ مثل أن يكون مثلا معتاد أن يباع هذا النوع من الخضار على صفة معينة؛ في لونه أو في طعمه أو في حجمه إذا كان صغيرا فهو عيب من جهة النوع، فيكتم هذا العيب فيجعله داخل أسفل الكرتون مثلا فيختبيء هذا نوع من الغش.
وبعض الناس حينما يبيع هذه الأشياء يقول: إنه اشتراها هكذا، نقول: وإن كنت اشتريته هكذا لا يحل لك أن تبيعها هكذا إلا إذا كنت لا تعلم بها وبعتها على ذلك فلا بأس، أما أن تكون اشتريت مثلا هذه الأنواع من الأطعمة وقد علمت أنه قد غشك، فلا يجوز لك ذلك؛ لأنه في الحقيقة هو غش بتدليس من جهة أنه هو لا يشتري لنفسه، فيتحمل هذا الغش لأنه سوف ونوى أن يجريه على غيره يتحمله من هذه الجهة، وإلا لو أنه اشتراه لنفسه أو اشتراه لضيفه أو لبيته فإنه لا يرضى بذلك، ويدقق مع البائع، أما إذا اشتراه لدكانه ولبيعه ولشرائه يقول: أنا اشتريته هكذا؛ ولهذا لا يجوز لك أن تبخس في مثل هذا، وتحتج لنفسك إذا اشتريت لنفسك، ولا تحتج إذا اشتريت لأجل أن تتاجر وأن تبيع، بل عليك أن لا تشتري إلا شيئا يكون نظيفا وغير معيب.
ثم هذا في الحقيقة فيه بركة في البيع، وفيه صدق في المبيع، ومن صدق وبين بورك له؛ ولهذا قال -عليه الصلاة والسلام-: صدقا وبينا بورك لهما وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما كما في حديث حكيم بن حزام -رضي الله عنه-، لكن الشيطان يسول ويعجل، الإنسان لحرصه ولهلعه لاستعجال في مثل هذا، ويقول مثلا أنه إذا دقق في مثل هذا واحتاط أنه تفوت عليه السلع وتفوت عليه الأرباح، وهذا من تهويل الشيطان وتسويله، وإلا مشاهد وظاهر أن من يحتاط لغيره ممن يبيع ويشتري، ويشتري الشراء الحسن الطيب فإنه يبارك له في شراءه ويبارك له في بيعه، والبركة البركة في المال، وإذا حلت البركة في البيع والشراء نمى وزاد وإن كان قليلا؛ فلهذا وجب عليه أن يبين مثل هذا، ولو أنه تبين بعد ذلك أنه قد وقع على الغش، فهو في هذه الحالة إن كان لم يعلم له أن يرجع؛ ولهذا قال -عليه الصلاة والسلام-: من غش فليس مني وهذه العبارة على ظاهرها، من غش فليس منه -عليه الصلاة والسلام- وفي اللفظ الآخر: من غشنا فليس منا .
وهذا اللفظ المضمر ليس منا على ظاهره، يقال كما قال -عليه الصلاة والسلام- خلاف المرجئة الذين يقولون: ليس منا يعني: ليس من خيارنا، أو الخوارج الذين يقولون ليس منا يعني: أنه كافر، هذان قولان متقابلان باطلان، وأهل السنة وسط في باب الأسماء والأحكام، في باب الأسماء، أسماء الدين وأحكام الدين، هم وسط فيها، فإذا قيل: ليس منا فالمراد على حقيقته ليس منا، ولا يلزم منه أن يكون كافرا لكن النقص هنا نقص واجب؛ لأن نقص الواجب نوعان: نقص يفسد العبادة ويبطلها، ونقص لا يفسدها ولا يبطلها وإن كان واجبا؛ مثل نقص الوضوء بنقضه وإبطاله، ومثل نقص الصلاة بسقوط أركانها كالطهر، ومثل نقص الحج في بعض أركانه فيبطل، فنقص الأركان في الحج وفي الصلاة وفي الوضوء يبطلها، وهنالك نوع من النقص ليس بواجب، مثل نقص بعض واجبات الصلاة إذا تركها سهوا، فهذا نقص واجب لا يبطل الصلاة.
هكذا في نقص الواجبات في باب أسماء الدين والأحكام، كما أن ما نقص عن الواجب في أبواب العبادات نقص يبطل ونقص لا يبطل، كذلك النقص في باب الأسماء والدين والأحكام نقص يبطل الدين وبه يكون كافرا مما يكون به العبد مرتدا، ونقص لا يبطله بل يكون النقص نقص واجب، وهذا مثل ما يأتي في كثير من الأخبار أن ينفى مسمى الاسم عن شيء من أشياء مثل قوله -عليه الصلاة والسلام-: لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربه وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة يرفع الناس إليه فيها أبصارهم وهو مؤمن إلى غير ذلك من الأخبار التي جاءت في هذا الباب.
فلهذا النقص فيها نقص واجب، وبهذا تزول الشبهة، ويتبين الفرقان في مثل هذه الأسماء، ويعلم أنه يقال: إنه نقص إيمانه الواجب، وليس من أهل الإيمان الذين إيمانهم واجب، لكن ليس خارجا عنهم خروجا كليا، إنما خرج عن مسمى كمال الواجب وهو معهم من حيث الجملة لأن الكمال نوعان: كمال واجب وكمال مستحب، فإذا جاء نفي الإيمان في بعض الأخبار عن أهل الإيمان، فالمراد نفي الكمال الواجب لا نفي الكمال المستحب، فالمراد نفي كمال المقتصدين لا نفي كمال الأبرار المتقين؛ لأن كمال الأبرار كمال مستحب، وكمال المقتصدين كمال الواجب، فمن لم يأت بالإيمان فنقص دينه وإيمانه عن دين المقتصدين، لكن لا زال معه مسمى الإيمان وأصل الإيمان.
وهذا بمعنى أنه لا يستحق الثواب الذي يكون لأهل الإيمان الواجب يقال: ولهذا يقال قد يعني في ما يقع بين الناس إذا استأجر إنسان أجراء أو عمال على عمل من الأعمال، فعمل بعضهم طول النهار، وعمل بعضهم بعض النهار، هم استووا في أصل العمل، فإذا جاءوا لأخذوا أجرتهم صح أن يقول: من عمل جميع النهار، هذا ليس منا، بمعنى أنه لم يعمل كمال العمل، وإن كان هو منهم في أصل العمل، فيستحق من الأجرة بقدر ما عمل، ولا يلزم أن يكون عمله باطلا، وأن لا يكون له شيء من الأجرة، بل ليس له الكمال الواجب الذي شرط لهم بل له بقدر ذلك مما عمل .
هكذا أيضا عمال الآخرة من عمل لها فأتى بالكمال الواجب استحق الوصف الذي به الكمال لأهل الوجوب الإيماني، ومن لم يأت بالواجب فإنه ينقص عنهم بقدر ذلك، وبهذا يكون أهل الإسلام وأهل أهل السنة والجماعة وسط في باب الأسماء والأحكام بين الخوارج الذين يجعلون نفي هذه الأسماء مبطلا للدين، وبين المرجئة الذين يقولون إنه كامل الدين وكامل الإيمان، لكن بمعنى أنه ليس في كذا ليس في كذا إذا جاء في الأخبار بمعنى أنه ليس من خيارنا، وهما قولان متقابلان متضادان، وأهل السنة وسط بين طرفين وحق بين ضلالتين، والحمد لله .
أما بعد:
فيقول الإمام الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى-:
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مر على صبرة من طعام، فأدخله يده فيها، فنالت أصابعه بللا فقال: ما هذا يا صاحب الطعام؟ قال: أصابته السماء يا رسول الله. قال: أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس، من غش فليس مني رواه مسلم .
--------------------------------------------------------------------------------
أبو هريرة -رضي الله عنه- صحابي مشهور، واختلف في اسمه كثيرا والمشهور أنه عبد الرحمن بن صخر، أو المشهور فيه قولان: عبد الرحمن بن صخر وعبد الله بن عمرو، وروى أحاديث كثيرة -رضي الله عنه-، وهو من علماء الصحابة ومن فقهائهم، وله فتاوى كثيرة -رضي الله عنه-.
هذا الخبر ذكره المصنف -رحمه الله- في باب البيوع من جهة أن الغش في المبيعات في الأصل أنه لا يجوز، لكن من وقع منه غش في المبيع فإن المغشوش يكون بالخيار، وفيه أنه مر على صبرة من طعام، الصبرة هي الكومة أو الطعام المجتمع المكوم صب بعضه على بعض، فأدخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يده في الطعام فنالت أصابعه بللا، فقال: ما هذا يا صاحب الطعام: قال: أصابته السماء. يعني المطر، فأنكر عليه -عليه الصلاة والسلام- من جهة أنه لا يرى، وأمر بإبرازه وإظهاره حتى يعلمه الناس، قال: من غش فليس مني وفي اللفظ الآخر: من غشنا فليس منا ومن كان عنده شيء من الطعام فالواجب عليه أراد أن يبيع شيئا مكوما أو مجموعا فالواجب أن يكون واضحا ظاهرا، وإذا كان فيه فساد فالواجب أن يظهره، وأن يجعله فوق الطعام كما أمر -عليه الصلاة والسلام- أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس.
وهذا يشمل كل ما يكون مستورا سواء كان من طعام أو يكون مثلا يعني سواء كان مصبورا أو يكون مثلا يباع في كراتين أو في أخشاب مثل ما تباع من أنواع الخضار والفواكه، وكذلك أنواع الثياب إذا باعها مجموعة، وكذلك إذا باع السيارة، أو باع جهازا من الأجهزة وكان فيه عيب، فالواجب بيانه لا ++ حديث عقبة: لا يحل لمسلم أن يبيع بيعا وفيه عيب إلا بينه له يجب عليه أن يبين هذا العيب وأن يذكره؛ لأن من لم يبين العيب فقد غش، ولأن العيب ينقص السلعة؛ فلهذا وجب عليه أن يبين إما بيانا منصوصا أو بيانا يعني بيانا إما أن يكون البيان مخصوصا منصوصا؛ أو أن يكون بيانا عاما مثل أن يقول، وهذا مما اختلف فيه هل يجب التنصيص على العيب؟ وهل تجزئ البراءة من العيب؟، اختلف العلماء في هذا إذا كان الشيء المبيع فيه عيب .
والأظهر أن يقال إن كان العيب معلوما للبائع كونه يعلم أن فيه عيبا، في سيارة فيها عطل في داخلها أو خراب في داخلها، أو هذا الجهاز المبيع فيه خراب فإن كان البائع يعلمه فالواجب أن يبينه، وإن كان لا يعلمه وسأله البائع عن عيوبها، فلا يلزمه مثلا أن يعني لا يلزمه ذلك من جهة عدم العلم وأن يتفحصها تماما، المقصود أنه إن كان يجهل فلا بأس في ذلك، ويجوز على هذا أن يبيعها بالبراءة من العيب، وهذه مما اختلف العلماء فيه في جواز البيع بالبراءة من العيب يقول: أبيعك هذه السيارة وأنا بريء من كل عيب تماما، ولا يلحقني شيء ولو وجد عيب بعد ذلك، فهل يلحقه؟ نقول: البراءة من العيب إن كان يعلم فالصحيح أنه لا يجوز؛ لأنه إذا كان يعلم فالواجب عليه البيان؛ لأنه ثبت في الأخبار أنه -عليه الصلاة والسلام- حديث عقبة وغيره قال: إلا بينه له وفي حديث أبي هريرة: من غش فليس مني .
وهذا يكون مع العلم بالعيب، وإن كان لا يعلم بالعيب وباعه بالبراءة منه مع عدم العلم فلا بأس بذلك، وإذا وجد عيبا بعد ذلك فلا رجوع له ولا خيار؛ لأنهما يستويان في العلم، فإذا استويا في العلم فلا عتب على البائع، وعلى هذا يعلم أنه يجب على من يبيع في الأطعمة ويعلم عيبا في هذا الطعام أن يبينه، ويعلم أيضا أن العيب قد يكون عيب النوع لا عيب ولا أن يكون العيب خرابا، يعني لا يشترط أن يكون العيب فسادا أو خرابا، بل يكون العيب عيب نوع ـ مثل أن يكون مثلا معتاد أن يباع هذا النوع من الخضار على صفة معينة؛ في لونه أو في طعمه أو في حجمه إذا كان صغيرا فهو عيب من جهة النوع، فيكتم هذا العيب فيجعله داخل أسفل الكرتون مثلا فيختبيء هذا نوع من الغش.
وبعض الناس حينما يبيع هذه الأشياء يقول: إنه اشتراها هكذا، نقول: وإن كنت اشتريته هكذا لا يحل لك أن تبيعها هكذا إلا إذا كنت لا تعلم بها وبعتها على ذلك فلا بأس، أما أن تكون اشتريت مثلا هذه الأنواع من الأطعمة وقد علمت أنه قد غشك، فلا يجوز لك ذلك؛ لأنه في الحقيقة هو غش بتدليس من جهة أنه هو لا يشتري لنفسه، فيتحمل هذا الغش لأنه سوف ونوى أن يجريه على غيره يتحمله من هذه الجهة، وإلا لو أنه اشتراه لنفسه أو اشتراه لضيفه أو لبيته فإنه لا يرضى بذلك، ويدقق مع البائع، أما إذا اشتراه لدكانه ولبيعه ولشرائه يقول: أنا اشتريته هكذا؛ ولهذا لا يجوز لك أن تبخس في مثل هذا، وتحتج لنفسك إذا اشتريت لنفسك، ولا تحتج إذا اشتريت لأجل أن تتاجر وأن تبيع، بل عليك أن لا تشتري إلا شيئا يكون نظيفا وغير معيب.
ثم هذا في الحقيقة فيه بركة في البيع، وفيه صدق في المبيع، ومن صدق وبين بورك له؛ ولهذا قال -عليه الصلاة والسلام-: صدقا وبينا بورك لهما وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما كما في حديث حكيم بن حزام -رضي الله عنه-، لكن الشيطان يسول ويعجل، الإنسان لحرصه ولهلعه لاستعجال في مثل هذا، ويقول مثلا أنه إذا دقق في مثل هذا واحتاط أنه تفوت عليه السلع وتفوت عليه الأرباح، وهذا من تهويل الشيطان وتسويله، وإلا مشاهد وظاهر أن من يحتاط لغيره ممن يبيع ويشتري، ويشتري الشراء الحسن الطيب فإنه يبارك له في شراءه ويبارك له في بيعه، والبركة البركة في المال، وإذا حلت البركة في البيع والشراء نمى وزاد وإن كان قليلا؛ فلهذا وجب عليه أن يبين مثل هذا، ولو أنه تبين بعد ذلك أنه قد وقع على الغش، فهو في هذه الحالة إن كان لم يعلم له أن يرجع؛ ولهذا قال -عليه الصلاة والسلام-: من غش فليس مني وهذه العبارة على ظاهرها، من غش فليس منه -عليه الصلاة والسلام- وفي اللفظ الآخر: من غشنا فليس منا .
وهذا اللفظ المضمر ليس منا على ظاهره، يقال كما قال -عليه الصلاة والسلام- خلاف المرجئة الذين يقولون: ليس منا يعني: ليس من خيارنا، أو الخوارج الذين يقولون ليس منا يعني: أنه كافر، هذان قولان متقابلان باطلان، وأهل السنة وسط في باب الأسماء والأحكام، في باب الأسماء، أسماء الدين وأحكام الدين، هم وسط فيها، فإذا قيل: ليس منا فالمراد على حقيقته ليس منا، ولا يلزم منه أن يكون كافرا لكن النقص هنا نقص واجب؛ لأن نقص الواجب نوعان: نقص يفسد العبادة ويبطلها، ونقص لا يفسدها ولا يبطلها وإن كان واجبا؛ مثل نقص الوضوء بنقضه وإبطاله، ومثل نقص الصلاة بسقوط أركانها كالطهر، ومثل نقص الحج في بعض أركانه فيبطل، فنقص الأركان في الحج وفي الصلاة وفي الوضوء يبطلها، وهنالك نوع من النقص ليس بواجب، مثل نقص بعض واجبات الصلاة إذا تركها سهوا، فهذا نقص واجب لا يبطل الصلاة.
هكذا في نقص الواجبات في باب أسماء الدين والأحكام، كما أن ما نقص عن الواجب في أبواب العبادات نقص يبطل ونقص لا يبطل، كذلك النقص في باب الأسماء والدين والأحكام نقص يبطل الدين وبه يكون كافرا مما يكون به العبد مرتدا، ونقص لا يبطله بل يكون النقص نقص واجب، وهذا مثل ما يأتي في كثير من الأخبار أن ينفى مسمى الاسم عن شيء من أشياء مثل قوله -عليه الصلاة والسلام-: لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربه وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة يرفع الناس إليه فيها أبصارهم وهو مؤمن إلى غير ذلك من الأخبار التي جاءت في هذا الباب.
فلهذا النقص فيها نقص واجب، وبهذا تزول الشبهة، ويتبين الفرقان في مثل هذه الأسماء، ويعلم أنه يقال: إنه نقص إيمانه الواجب، وليس من أهل الإيمان الذين إيمانهم واجب، لكن ليس خارجا عنهم خروجا كليا، إنما خرج عن مسمى كمال الواجب وهو معهم من حيث الجملة لأن الكمال نوعان: كمال واجب وكمال مستحب، فإذا جاء نفي الإيمان في بعض الأخبار عن أهل الإيمان، فالمراد نفي الكمال الواجب لا نفي الكمال المستحب، فالمراد نفي كمال المقتصدين لا نفي كمال الأبرار المتقين؛ لأن كمال الأبرار كمال مستحب، وكمال المقتصدين كمال الواجب، فمن لم يأت بالإيمان فنقص دينه وإيمانه عن دين المقتصدين، لكن لا زال معه مسمى الإيمان وأصل الإيمان.
وهذا بمعنى أنه لا يستحق الثواب الذي يكون لأهل الإيمان الواجب يقال: ولهذا يقال قد يعني في ما يقع بين الناس إذا استأجر إنسان أجراء أو عمال على عمل من الأعمال، فعمل بعضهم طول النهار، وعمل بعضهم بعض النهار، هم استووا في أصل العمل، فإذا جاءوا لأخذوا أجرتهم صح أن يقول: من عمل جميع النهار، هذا ليس منا، بمعنى أنه لم يعمل كمال العمل، وإن كان هو منهم في أصل العمل، فيستحق من الأجرة بقدر ما عمل، ولا يلزم أن يكون عمله باطلا، وأن لا يكون له شيء من الأجرة، بل ليس له الكمال الواجب الذي شرط لهم بل له بقدر ذلك مما عمل .
هكذا أيضا عمال الآخرة من عمل لها فأتى بالكمال الواجب استحق الوصف الذي به الكمال لأهل الوجوب الإيماني، ومن لم يأت بالواجب فإنه ينقص عنهم بقدر ذلك، وبهذا يكون أهل الإسلام وأهل أهل السنة والجماعة وسط في باب الأسماء والأحكام بين الخوارج الذين يجعلون نفي هذه الأسماء مبطلا للدين، وبين المرجئة الذين يقولون إنه كامل الدين وكامل الإيمان، لكن بمعنى أنه ليس في كذا ليس في كذا إذا جاء في الأخبار بمعنى أنه ليس من خيارنا، وهما قولان متقابلان متضادان، وأهل السنة وسط بين طرفين وحق بين ضلالتين، والحمد لله .